تابعت وقرأت جيداً «مداخلات» الذوات المحترمين رؤساء الحكومات السابقين حول الشأن الوطني الأردني, ومنهم من عملت معه مستشاراً له, ومنهم من كنت قريباً منه كثيراً, وأعرف جيداً نمط تفكير كل منهم, وإخلاصهم غير المشوب بأي مثلبة قط للوطن وللعرش, ولكن الرؤى والاجتهادات تتباين في ما بينهم أحياناً, لكنها تصب جميعها في دائرة المصالح العليا للدولة والوطن, والمصالح العامة للشعب.
من هؤلاء الذوات المحترمين مع حفظ الألقاب, من هو قلق, ومنهم من يرى أن الإصلاح المنشود لا يكون بهذه الطريقة, ومنهم من يرى أن لا أحد يشرح القرار ويدافع عنه بشجاعة.
وحيث أدعو ودائماً إلى الهدوء والجلوس معاً لمناقشة قضايانا بصراحة تقتضيها وبإلحاح, المصالح العليا للمملكة الأردنية الهاشمية في هذا الزمن الإقليمي والدولي الحرج جداً جداً, فإنني وكمواطن يدعي الحرص على الوطن, أعاتب بعض هؤلاء الذوات الكرام على «نكوصهم» طويلاً عن المبادرة للقاء معاً, وداخل غرفة مغلقة, للخروج بتوصيات ونصائح ترفع إلى رأس الدولة جلالة الملك, حول الشؤون العامة بكل تفاصيلها وكما يرونها اليوم مثلاً, عوضاً عن التصريح, أو تقديم النصح لجلالة الملك فرادى, وهنا أستذكر أنني وقبل نحو عشر سنوات اقترحت على أحدهم شيئاً من هذا, لكنه اعتذر, ومبرره أنه لن يجد أحداً يوافقه, قال لي, أذكر لي ثلاثة أو أربعة أسماء, فذكرت, لكنه رأى أنه لن يجد عندهم تجاوباً..!.
مثلما أستذكر لقاء شرفت به في حضرة «الملك» مع ثلة محترمة ضمت رئيسي وزراء سابقين وخمسة وزراء سابقين ونائباً سابقاً وسفيراً سابقاً, وكنت وبحسب البروتوكول آخر المتحدثين الكرام الذين لم ألمس في حديث معظمهم الكثير مما يؤشر إلى أن الظرف صعب ويتطلب مراجعة شاملة وقرارات استراتيجية تنأى بالأردن عن الذهاب إلى ما يعانيه حالياً من صعوبات اقتصادية اجتماعية على وجه الخصوص.
ولهذا اقتفيت أثرهم وتناسيت كلاماً صريحاً كنت أنوي عرضه بين يدي جلالته, واقتصرت مداخلتي على معضلتي الفقر والبطالة في المحافظات, وقدمت اقتراحاً لاحظت أنه حظي بقبول من لدن جلالة الملك, طالبت فيه بحث أبناء المحافظات ملاك الملايين القاطنين في غرب عمان على إقامة مشروعات تشغيلية في محافظاتهم بالشراكة مع الحكومة.
وقلت إن هذا واجب يتحملونه, خاصة وهم يتقلدون المناصب العليا والقيادية باسمنا نحن أبناء المحافظات التي ينتمون إليها, ولا نراهم بيننا إلا في مناسبات عامة كالانتخابات البرلمانية عندما يترشحون نيابة عنا, أو في حال وفاة شخص مهم مثلا, وعلى «المقابر», ثم يعودون من حيث أتوا سالمين غانمين!
وننتقل إلى الجزء الأهم وهو الإصلاح الشامل, وهنا أترحم على روح المغفور له بإذن الله عبدالهادي المجالي, وأستذكر محاضرة له في «نادي الفيحاء» بعمان عام 2001, حضرها جمهور غفير بينهم زميلان صحفيان شغلا وما زالا يشغلان مواقع رسمية متقدمة.
كانت المحاضرة سياسية بامتياز, وقام مضمونها على محورين أو دعوتين رئيسيتين هما: دعت الأولى... إلى إعادة ترتيب البيت الأردني «الوطن», فيما دعت الثانية أو هي قالت, إن النظام السياسي الأردني بمجمله, بحاجة إلى مراجعة شاملة, وهو ما نحن بصدد بعضه اليوم وبعد عشرين عاماً, من خلال اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية الأردنية.
أحدثت المحاضرة جلبة وفهمت من قبل بعض المناكفين بغير مقاصدها الوطنية البريئة جداً, فكثيرون منا في الأردن, يعتقدون أن النظام السياسي الأردني يعني «القصر», وهو اعتقاد خاطئ تماماً, فالنظام السياسي في أي وطن, هو الدولة برمتها.. سلطاتها الرئيسية تنفيذية تشريعية قضائية ومؤسساتها الحزبية ودستورها وتشريعاتها وبالذات السيادية منها كقانوني الأحزاب والانتخاب وكل ما له صلة بالتكوين السياسي العام للدولة.
نعم, أحدثت المحاضرة التي أقر الآن بأنني أنا من صغت أفكارها كمستشار «لأبي سهل» في حينه, رحمه الله, لغطاً ذهب بعض المناكفين التقليديين فيه إلى القول العابث بأن المجالي يريد تغيير الحكم في الأردن!!!، حتى أن مسؤولاً كبيراً في حينه عاتب الباشا المجالي في مناسبة اجتماعية بحسب ما قال لي المرحوم, قائلاً له...«شو يأ أبو سهل البيت الأردني مش مرتب وبدك ترتبه»!.
خلاصة القول.. كلنا قصرنا بحق البلد بشكل أو بآخر, ومعظمنا جاملوا وقالوا أمام «الملك» رأس الدولة, كلاماً مناقضاً بالكلية لما يقولونه داخل الغرف المغلقة, إلا من رحم ربنا كي لا أظلم من أعرف أنهم بوجه واحد لا بوجهين, خاصة من طلب منه جلالته النصيحة والرأي, وكلنا نتحمل قسطاً من مسؤولية ما آلت إليه ظروفنا من صعوبات اقتصادية، اجتماعية، وسياسية, وها نحن اليوم ولسوء الحظ فرقاء لا فريقاً, ولا نجد من نلومه ونحمله المسؤولية سوى «الحكومة» التي أغرقناها بالاتهامات والإشاعات «وفش الغل» منذ يومها الأول وما زلنا نفعل, مطالبين إياها وحدها بالإنقاذ!
بصراحة.. وللمرة العاشرة.. ربما, نحن في وسط إقليمي وعالمي غير عادي على الإطلاق, وكله يدرك أن مخططاته وطموحاته ومطامعه على كثرتها لن تنجح, إلا من خلال انسجامنا معها حتى لو كانت في غير صالحنا حاضراً ومستقبلاً, ولهذا فأمامنا مغريات فارغة, وترهيب نحن قادرون على صده, إن توحدنا وتصارحنا واستجمعنا قوانا وكنا على قلب رجل واحد فعلاً وحقاً لا تزلفاً ورياء.
وإن نحن راجعنا مسيرتنا وأغلقنا ملف الفساد المقزز بتسويات عاجلة, وأطلقنا الحريات المنضبطة, وفتحنا الباب لتشاركية شعبية واسعة في صنع القرار, وعالجنا معضلة البطالة التي تنتج كل يوم فقراً أكثر, وقبل هذا وذاك, توافقنا وبوضوح لا ضباب فيه, على رفض أي عبث بهويتنا الوطنية الأردنية الموحدة لكل شعبنا, وتشبثنا بموقفنا التاريخي الثابت من قضية فلسطين والقدس الشريف, واستنهضنا الهمم في تعظيم موارد دولتنا الذاتية, وتخلصنا من كثير من المستوردات الاصطلاحية الغريبة عنا وعن ثقافة شعبنا, وأكدنا بالقول وبالفعل معاً تمسكنا بقيادتنا الهاشمية, وإلتفافنا معاً شعباً وقيادة حول وطننا وقضيتنا المركزية «فلسطين», وأبلغنا أصحاب النفوذ الإقليمي والدولي بأننا نحن «غير» وظروفنا «غير» وشعبنا «غير», وليس منا من يقبل بإعادة إنتاج وصياغة دولتنا وشعبنا على طريقتكم كما تظنون أنتم ومن يتماهى معكم حتى لو كان منا, فهذا «خطر» شديد يتهدد وجودنا ولا قبل لنا به أبداً.
الله مسير الكون مدبر أموره كلها من أمام قصدي. وعذراً للإطالة, وعذراً إن أسأت لأي كان.
الرأي