مدار الساعة - يوسف الدموكي
تأسرنا هذه البلاد يا سيدي، تربطنا علاقة شديدة التعقيد، عصية على الفهم إلا لمن هو مغرمٌ بها، وثقيلة على القلب إلا للمتيّمين، ولا يُعقل ذلك الحب لأنه من ضروب الجنون، وهل يفهم المجنون أو يُجن العاقل؟ هي للمجانين حصراً، للذين لو طال عليهم الأمد فعاشوا في أرضٍ غيرها خمسين سنة، لظلوا يحلمون بشاهدٍ ومقبرة وجنازة فيها، فقط يتحول الموت فيها إلى حُلم حين تحيا بعيداً عنها.
نراقب من قُربٍ أيادي العمال، نتتبع المهندسين في خطواتهم، في خرائطهم وخططهم، أتخيلني أحمل المناديل الورقية، أمسح العرَق عن جباه المكافحين، أصعد إلى البلدوزر الذي يحارب وحده، أهدي سائقَه طبقاً من الحلوى، أسقيه بعدها ماءً، أعدّ للواقفين جميعاً دور شاي ثقيل يساعدهم على ضبط رؤوسهم، ويقوي سواعدهم ليحققوا معجزةً جديدة.
كنتُ أشكك، وكنت أومِن أكثر، كنتُ متحيراً، وكنتُ متيقناً أكثر، أقول هذه القناة لنا، وإن تناوب على دخلها الكثيرون ولم نرَ منها قِرش صاغ، هذه الأرض أرضنا، وذلك التراب عِشرتنا معه طويلة، منذ أول مصيفٍ مع أهلنا، ومنذ أول حصةِ ألعاب في الحوش، ومنذ أول خروجٍ للعب في الشارع أمام البيت، وامتداداً إلى آخر فصول الحياة، حين نُدفَن فيه.
أخذتني السفينة الجانحة إلى ما هو أبعد، وأخذني تعويم العمال المصريين لها إلى أصل العلاقة العجيبة بيننا وبين الوطن.
هذه المياه علاقتنا بها أزلية، مالحها وعذبها، في النيل والبحرين، تلك التي نشرب منها فنأخذ مناعةً عما سواها، وذلك الذي نتعلم فيه الغطس لأول مرة، ونتسابق فيه على من يرفع رأسه أولاً، وإن مضى الزمان وغرق بعضنا ونجا بعضنا، وإن لفظ جثامين وابتلع جثثاً، فلا أحد فينا يجرؤ على أن يلعن البحر يوماً، هو قاسٍ أحياناً، ومؤلم أحياناً، لكنه يخصّنا، ندعو عليه ونكره من يقول آمين.
بيني وبين نفسي، كنتُ أكره أن نستعين بخواجةٍ أجنبي ليحل لنا المشكلة، لم أكن أحب أن يكون القبطانُ أجنبياً على الدوام، أحببت أن نصنع بطولة ولو لمرةٍ يُكتَب عليها "صُنع في مصر"، كالفرق بين مباراة في أمم إفريقيا بقيادة حسن شحاتة، ومباراةٍ في كأس العالم بقيادة كوبر.
أحببتُ أن يكون العامل هو القائد هذه المرة، أحببتُ أن يكون المشرفون خريجي جامعات مدن مصرية، هندسة القاهرة، هندسة الوادي، هندسة شبين، هندسة عين شمس.. خصوصاً أن هذه مسألة إرادة على مستوى البسطاء، مسألة تحدٍّ بين عاملٍ ونفسه، لا يكفي راتبه حتى آخر الشهر، ولا يشعر بالراحة في كل أمر، لكن، ارفع له العلم وضع في يده مفتاح 13 وقُل له حرك لي سفينة بارتفاع عمارةٍ من 17 دوراً، وبطول 400 متر، وبوزن 2200 طن، وقل له أمامك وقت قصير لتحقق المهمة، دعه أياماً، سيقول "باسم الله" ويبدأ العمل، ثم بعد أيام أقل مما توقعت، سيحل الأزمة، ويعود لك برقم قياسي. والذي حفرها في البداية بإذن الله، لن يستعصي عليه إخراج سفينة جانحة منها في النهاية، المعجزات قابلة للتسلسل دائماً.
هذا سر من أسرار حبنا "لنا"، حبي لهؤلاء الذين هم نحن، حب المعجزات، بناء الأهرامات كان معجزة، مجرد البقاء على قيد الحياة بفضل الله مع كل المصائب التي عشناها كان معجزة، عبور بارليف كان معجزة، الثورة كانت معجزة، وإن كان تحريك البلاد معجزة لا تحدث، فتحريك السفينة كان عشر معجزات.
كل هذه الأساطير كان البسطاء جداً، هم أبطالها الوحيدين، الحقيقيين، أبطالُ الأهرامات لم يكونوا خوفو وإخوته، وإنما العمال الذين بنوها، حتى وإن ضُربوا بالسياط، فإنهم يشعرون بأحقيتهم في ذلك الإنجاز أكثر ممن سميت بأسمائهم حتى، عبور بارليف كان بطولة هؤلاء الذين عبروا مكبرين مهللين، وحدهم، أكثر من أي أحد آخر، الثورة كانت الفاصل الأول، كانت معجزة، لن يستطيع السلطان لأول مرة أن ينسبها إليه، لأن بطولتها في أنها كنت ضده، أنها جعلته في وادٍ والأبطال الحقيقيين في الوادي المقابل.
تحريك السفينة كان بطولة هؤلاء، الذين عرقت جباههم وغرقت ملابسهم وتشحّمت وجوههم، ورأيناهم باسمين في نهاية الأسبوع، لم نرهم طوال أيامه كيف فعلوا ما فعلوه، كيف حققوا ما ضحكوا لأجله في نهاية السباق، لكننا نقرأ الروايات كلها في عيونهم، صمتهم الباسم يقول شعراً، وصوتهم الخافت يكتب معلقاتٍ، وأنفاسهم المتقطعة تحكي بلا انقطاع عن عزمٍ من حديدٍ.
أي حبٍّ ذلك الذي نعيشه؟ أي عشقٍ الذي نذوب فيه؟ أي علاقة معقدة وعصية على الفهم؟ نختلف ونتفق، نتعارك ويصبح بيننا "ما صنع الحداد"، لكننا من جانبٍ آخر، من خلف الكواليس، نحب هذا المكان من زوايا أخرى، لا يشترك فيها معنا أحد.
وإنني إذ أحب بلادي فإني أكره من يريد أن يحبها وحده، من يشترط أن نكون على الرأي نفسه لنذوب في عشق الشيء نفسه، مَن يراها من زاويةٍ ضيقة حرجة لا تسع عينين اثنتين، مَن يقول لي مستنكراً: كيف تحبها وأنت في المنفى؟ كيف تتغزل فيها وأنت بعيد بعيد؟ كيف تتمنى العودَ إليها وأنت طريد؟ أقول ببساطةٍ دون عناء في الشرح: "لأنك لا تعيش ما أعيشه، فلن تفهم ما أنا مجنونٌ به".
سيسجل الأولاد هدفاً جديداً، سنصعد إلى بطولة جديدة، سنتوّج على رأس البلاد الأخرى، ولا يضيرنا أن يستغل الانتصار آخرون في بروباغندا تخصهم في النهاية، لأن الانتصار ذاته يخصنا، وكل الدندنة التي حوله هي صياح منفصل، والذي يصيح غير الذي يسجل الهدف، ونحن في مدرجات الغربة نتفرج، نشجع بتعصب، نكاد نشعل الشماريخ في بيوتنا لولا أن يستدعي الجيران لنا الشرطة، ونبكي كما يبكي الذين في الاستاد، ونفرح كما يفرح الواقفون على أعتاب القناة، يغنون "هيلا هيلا صل على النبي.. هيلا هيلا الهمة يا رجالة".
هذه القصة يا سيدي، القصة صعبة الحبكة، السهلة الممتنعة، شديدة البساطة وشديدة التعقيد، هذا الحب النابت فينا، المتأجج على آخره، الملتهب، الذي يفصل جيداً بين البلاد والعباد، الذي يجعل المنفى عقاباً لا ثواباً، والغربة طارئة ولو متُّ فيها، والبعد ثقيلاً ولو ذقتُ فيه حلاوات العالم، سيبقى طعم المرّ الذي من صبار بلادي أعذب مذاقاً في حلقي من مجامع الحلو الذي في غيرها، وستظل رائحة التراب أمام البيت في شارعنا، أرقّ في رئتيّ من رشة عطرٍ في باريس.
هذي بلادي يا سيدي، وإنني مهما كنتُ مبعَداً فلستُ بعيداً.