كل من يريد ان يحاكم مرحلة ما، يستدعي وصفي التل، الذي تعرض الى غدر ذات يوم في القاهرة، ورحل شهيدا، والراحل اتفقت معه سياسيا، او اختلفت، لم يكن رجلا عابرا في حياة المملكة.
وصفي التل ليس مجرد ضريح، او صورة، او ذكرى، هو قيمة انسانية وسياسية، خصوصا، على صعيد كونه مسؤولا كان نظيف اليد، يتمتع بقيم النزاهة، ويدرك طبيعة موقعه، والتحديات، وهو بهذا المعنى لم يرحل، اذ بقيت هذه القيم، حاضرة، في تقييمات كل المراحل السياسية في الاردن.
وصفي يتسبب بأرق لكثرة، لان المقارنات بين وصفي، ومن بعده من شخصيات، تؤدي الى نتائج حساسة جدا، وتاريخ الاردن الشعبي لا يتنكر للشخصيات التي خدمت بنزاهة ونظافة، وهو هنا لا يمثل قيمة التعاطف معه فقط، كونه تعرض الى الغدر ذات يوم، بل يتم استدعاء رمزيته عند الكلام عن بقية رؤساء الحكومات في الاردن، وعن الوطنية بمعناها في موقع المسؤولية السياسية.
تعرف اسماء شخصيات، حاولت تقليد وصفي، وان تقدم نفسها للاردنيين بصورة شبيهة، الا انها لم تنجح لعدة اسباب، ابرزها ان القصة ليست محاولة لتصنيع نسخة ثانية من وصفي التل، وهنا فأن المحاولة غالبا تفشل، لان التقليد لدوافع رفع الشعبية، بات عملا مكشوفا، كما ان الظروف اختلفت كليا، فكل رئيس حكومة يأتي يتورط من حيث يحتسب او لا يحتسب بملفات شائكة، على صعيد السياسات العامة، او اتخاذ قرارات سيئة، او انكشاف مواقف لها كلفة كبيرة جدا.
وكأننا امام قرار بأن لا يكون هناك وصفي آخر، واذا لم يكن هذا قرارا، فأنه يمكن القول ان مجموع الادوار والوظائف التي يؤديها المسؤول هذه الايام، تجعل نسخه لشخصية وصفي التل، مستحيلة.
هذا الاستدعاء الشعبي لشخصية وصفي يحمل عدة دلالات، اولاها الاستدعاء للرمزية على محمل الادانة لتصرفات كثير من المسؤولين الحاليين، وثانيتها التكريم لمن تم غدره ذات يوم، وثالثتها ان صدقية الرجل لم تتبدد فهو حاضر، ورابعتها ان فهم الوطنية يخضع لحسابات دقيقة تجعل الترحم على وصفي التل، تكريسا للوطنية في صورة حساسة من الصور، تأبى التفريط بالحقوق تحت اي عنوان كان، خصوصا، مع كثرة التهديدات والمحاذير والمخاوف هذه الايام .
رمزية الرجل تكمن في بساطته، وعدم تكبره، ونظافة يده، واخلاصه، وشعبيته الفطرية والتلقائية، وايمانه بالاردن، وعدم وجود ملفات تدين سمعته الشخصية، اضافة الى ان كل هذا يمتزج مع الاحساس بكون الراحل كان ضحية عوامل مختلفة، ادت الى استهدافه بجريمة ، خسر فيها حياته، ولم يخسر حضوره، وهذا الحضور اليوم، ثقيل على صدور البعض ممن يريدون محو الذاكرة.
تسمع من البعض في عمان وغيرها، ان وصفي التل لو عادت به الحياة هذه الأيام، فلن يتمكن من ان يبقى وصفي، لان ظروف اليوم مختلفة، وهذا الكلام مدسوس، لاننا نتحدث عن القيم التي يمثلها الراحل، وهي قيم مطلوبة، فنظافة اليد، والنزاهة، والاستقامة، وغير ذلك، ليست قيما مرتبطة بزمن، وتزول بزمن آخر، بل ربما تشتد حاجتنا اليها هذه الايام، التي نعبر بها ظرفا صعبا، تراكمت فيه الاخطاء، من ملفات الفساد، وسوء الادارة، ومحاولات محو الهوية الوطنية.
هذا يعني ان افتراض فشله لو عاد حياً، لا يخلو من سموم مبطنة ومكشوفة للناس، تريد ان تقول ان ذلك زمن لا يتكرر، وان علينا ان نستسلم لكل ما نحن فيه، فهذا ليس زمن وصفي.
الناس يقولون كلمتهم بطرق مختلفة، احيانا يوجهون ادانات مباشرة لكل شيء، على مستوى ادارة شؤون هذه البلاد، واحيانا يستدعون رمزا ما، ويعظمونه تكريما له من ناحية، وادانة لكل من قد نعتبره نقيضا له، وفي كل الحالات، فأن القيم التي مثلها ما زالت حية، ومطلوبة في هذه البلاد، ليس عبادة للاشخاص، بل لان الناس يقولون بشكل واضح، انهم لا ينسون من كان ينحاز لحياتهم.
الغد