مدار الساعة - محمد صلاح عبد الجواد
على الرغم من الأساطير التي تؤكد حتمية تعرض أي شخص للأذى إن اقترب أو حتى فكر في استكشاف هذه البئر؛ فإن فريقًا بحثيًّا من سلطة عمان مكونًا من 10 أشخاص تمكن مؤخرًا من النزول إلى بئر برهوت، أو ما يعرف في الثقافة والتراث اليمني باسم «سجن الجان» أو «قعر جهنم».
ضم الفريق العماني باحثين جيولوجيين مختصين في علوم الأرض والطبيعة؛ ولم يُسجِّل التاريخ أي محاولة سابقة من أفراد يمنيين لاستكشاف هذه البئر، في الواقع هي ليست بئرًا بل تعد بالوعة طبيعية فُتحت في الأرض بفضل العوامل الطبيعية، وعندما نزل الباحثون إلى أسفلها دونوا روايات جديدة مختلفة عن الأساطير التي لطالما تداولها أبناء الشعب اليمني على مر العصور. فما قصة هذه الرحلة الاستكشافية؟ وما قصة البئر؟
أساطير بئر رهوت.. سجن الجان والأرواح الشريرة
تقع بئر برهوت في قلب الصحراء على مقربة من الحدود الفاصلة بين اليمن وسلطنة عُمان، وتبعد تقريبًا 1300 كم عن العاصمة اليمنية صنعاء. وعلى الرغم من أن المنطقة المحيطة بالبئر ليست مأهولة بالسكان؛ فإن كل الأجيال اليمنية منذ قرون وحتى الآن عرفت وتعرف عن بئر برهوت، ويعتقد أغلبهم أنها سجن للجان.
وليس الجان فقط؛ بل تذكر بعض المصادر أن الأسطورة اليمنية تقول إن بئر برهوت هو المكان الذي تُحبس فيه الأرواح البشرية الشريرة التي أذنبت وألحقت الأذى ببشر أثناء حيواتها، وأن هذه الأرواح سوف تخرج من البئر لتلقى الحساب يوم القيامة.
ويعتقد أيضًا البعض أن من يحاول أن يقترب من البئر سوف تبتلعه الحفرة بداخلها، ومن المعروف والمؤكد أن البئر تنبعث منها رائحة كريهة يشمها كل من يقترب منها، وتفسر الأساطير هذه الرائحة بأنها رائحة الجان والجثث العفنة التي ابتلعتها الحفرة في وقت سابق.
وتقول الأساطير أيضًا إن ثمة امرأة كانت ترعى الغنم بالقرب من البئر، وعندما وضعت طفلها الرضيع بجانبه ثم استدارت كي تطعم الغنم، اختفى طفلها. ويقال أيضًا إن بعض الرحالة حاولوا ملء المياه من البئر وعندما نزل أحدهم للبئر كي يملأ الماء صرخ وطلب من رفقائه أن يسحبوه إلى أعلى بسرعة، وعندما حاول أصدقاؤه سحبه وجدوا في نهاية الحبل رأسه فقط دون جسده!
في البداية.. من أين أتت تلك الأساطير؟
في البداية، انطلقت أسطورة «سجن الجان»، بسبب تفسير تاريخي ليس له أي أدلة واضحة أو ملموسة، حدث في أثناء حكم المملكة الحميرية، وهي مملكة يهودية من الأصول السبئية سكنت اليمن وأقامت دولة في جنوبه في القرن الثاني الميلادي. تقول الأسطورة إن أحد ملوك الدولة الحميرية القديمة استعان بالجان في حفر هذه البئر من أجل إخفاء كنوزه، وعندما مات الملك استوطن أتباعه من الجان البئر؛ ولهذا السبب أطلق عليها «برهوت»؛ إذ يعني اسم برهوت في اللغة الحميرية القديمة «أرض الجان أو مدينة الجان».
أما الداعم وراء ادعاء كونها مسكنًا للأرواح الشريرة والمذنبة بحسب الأساطير اليمنية؛ فهو حديث منسوب للنبي محمد، يقول: «خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم، وشر ماء على وجه الأرض ماء برهوت بقية حضرموت كرجل الجراد من الهوام، يصبح يتدفق، ويمسي لا بلال بها».
وبالبحث عن مدى صحة هذا الحديث، وجدنا مصدرين يؤكدان صحته، الأول هو تصريح لليمني الدكتور عبد السلام المجيدي، أستاذ التفسير بكلية الشريعة في جامعة قطر، والذي أكد صحة الحديث وقال إن بعضًا من رجال الدين المؤثرين عبر التاريخ أيدوا صحة هذا الحديث، مثل الطبراني الذي ذكره في معجمه الكبير، والألباني والذي أورده في صحيح الألباني.
أما المصدر الثاني الذي أكد صحة هذا الحديث فهو موقع «إسلام ويب-Islam Web»، والذي قال بصحة الحديث وتفسيره وأن له داعمًا من القرآن وأن بئر رهوت هي المشار إليها في الآية: «وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ».
لكن الفريق البحثي له رأي آخر
في البداية ذكرنا أن الفريق العماني سجل أول محاولة في التاريخ؛ لكنها في الواقع أول محاولة ناجحة للإنزال الكامل وإجراء عمليات استكشافية للبئر من الداخل، فقد حاولت الحكومة اليمنية استكشاف البئر في وقت سابق، كما صرح أحد المسئولين لوسائل إعلام فرنسية.
ولم تكن محاولة الحكومة ناجحة بسبب أنهم وصلوا فقط إلى عمق 50 مترًا، ولم يمكنهم من الوصول إلى أرض صلبة، ولم يتمكنوا من المتابعة بسبب انقطاع الإضاءة وقلة الأكسجين وعدم توافر المعدات اللازمة معهم لمتابعة عملية البحث.
أما الفريق البحثي العماني فكان يمتلك من الخبرة والمعدات والتكنولوجيا ما يمكنه من استكشاف البئر، فقط كان ينقصهم الشجاعة لتخطي المخاوف التاريخية والأسطورية التي تحيط بالبئر، وعلى ما يبدو أنهم اكتسبوها من الخبرات السابقة؛ إذ تمكن هذا الفريق من إجراء عمليات استكشافية ناجحة لنحو 100 كهف ومنطقة معزولة في جبال الشرق الأوسط من قبل.
بدأت عملية الاستكشاف من اللحظة الأولى التي بدأت فيها عملية إنزال ثمانية من أعضاء الفريق العماني إلى الكهف، يقول المستكشفون إنه على الرغم من الرائحة الكريهة التي كانت تزداد كلما تعمقوا إلى الأسفل، فإنهم لاحظوا مناظر جمالية مثل تكون اللآلئ اللامعة التي تتكون من عدة عناصر كيميائية مثل الكالسيوم، بالإضافة إلى الماء الجارية.
المشهد الثاني الذي وصفه المستكشفون هو شلالات المياه، وهو أمر غريب، لأن المنطقة المحيطة بالبئر لا تزيد على كونها صحراء جرداء ليس بها مصدر لأي نقطة ماء، لكن المستكشفين فسروا الأمر على أنه مياه جوفية، وبسبب وجود فتحات في جدران البئر ينساب منها الماء إلى أسفل، لتعطي منظرًا جماليًّا رائعًا.
كما أفاد المستكشفون بأنهم رأوا ثعابين وضفادع وخنافس داخل البئر، بالإضافة إلى العديد من الحيوانات النافقة، وخاصة الطيور، التي يبدو أنها سقطت داخل الحفرة، والتي قد تكون السبب الأول والأخير في انبعاث الرائحة الكريهة بشكل مستمر من البئر كما ذكر أعضاء الفريق.
ويرجع المستكشفون تكون البئر في الأساس، إلى كونها بالوعة جيولوجيًّا تكونت بسبب سريان المياه الجوفية التي تتفاعل مع الصخور الجيرية المكونة للطبقات التي تكون تحت سطح الأرض، وبسبب ذوبان تلك الصخور، يحدث انخفاض في السطح حتى يتكون تجويف مثل التجويف الموجود في البئر.
ساس بوست