كتب – عبدالهادي راجي المجالي
استفزتني قصة حمدة, هي عاملة خياطة وبخها المدير بطريقة استفزت كرامتها, فكان منها أن ماتت انتصارا للحياة .. لكن أحدا لم يقم بتبني قصتها.. لا الاتحادات النسائية, ولا مؤسسات ( الأن جي أوز) ..والأمن العام لم يقم بإصدار تصريح .. هل يحتاج الموت لتصريح؟
..حتى أن الذين انتصروا لروبي ووصفونا بأننا مجتمع (داعشي) ..لم يقوموا بكتابة ولو (بوست) من قبيل المجاملة لروح حمدة ...مع أن حمدة أنثى مثلها مثل أي سيدة في هذي البلد.
لكن البعض منا في لحظة , حول الفيس بوك لمنصة من أجل الدفاع ..عن روبي والبنطال الممزق, وطالب بإقالة بلقر ..واتهمونا بالعصبية والجهوية والقبلية.. وقالوا عنا : أننا القبيلة التي تغتال القبيلة.. وأننا الرجعية في حد ذاتها ...وأننا الذين قمنا باغتيال الظفيرة ..وأننا اعتقلنا الأهداب والقصيدة ..
أنا انتصر لحمدة.. حمدة التي ماتت قهرا لأن رجلا رفع صوته عليها.. في حين أن الضمير العربي كله, لم يستفز حين خطفت فلسطين.. وانتصرت ألوية الحقد الأعمى علينا ...ومضينا في العمر بين صفعة من إسرائيل وطعنة من أبناء العم ولم نمت بل أقمنا للحياة مهرجانا ...
على الأقل حمدة لم تقبل الضيم وماتت قهرا ...أين الرجولة إذا هل هي في دمع حمدة ؟..أم في الشوارب الممتدة لا بل في دمع حمدة وأقسم أنها في دمع حمدة .
حمدة عرتنا كلنا بلا استثناء ..حمدة لا تقبل الضيم, وحمدة هي الكرامة والضمير والمعتقد.. هي أبلغ من المتنبي , فقد قيل أنه هرب ...من موته المحتوم ..والتاريخ حاول أن يبرر هروبه بالقول أنه عاد حين سمع أحدهم يصرخ به , ألست القائل : الخيل والليل والبيداء ...عاد للقتال ومات , تلك كذبة أن أشك أن المتنبي عاد لقد طارده وأردوه ...كل القصائد التي صاغها في البطولة كانت كذبة , كلها لم تعادل دمعة حمدة التي انتصرت لكرامتها وعاقبت الجلاد بموتها ..نعم موتها كان الإنتصار على الجلاد وعلى رأس المال الجشع المتوحش , وعلى قيم الحداثة البالية ...حمدة ثورة حب ...ودمعة أكبر من وطن , وأقسم أنها كانت في موتها أبلغ من كل ما كتبه المتنبي في البطولة والرجولة والشهادة ...
حمدة لم تكن مثل بلقيس العراقية ... بلقيس تحدرت من أسرة برجوازية وقتلت وهي تعمل في السلك الدبلوماسي , وتجيد اللغة الفرنسية والإنجليزية ..وتمشي على الرخام وجديلتها أطول من النخل ...وكانت قصيدة ,بالمقابل حمدة كانت من الذين يرفعون الأكف في الهزيع الأخير من ليل المواجع ...كانت تأكل اللقمة مغمسة بدم الإبرة التي اخترقت الإصبع , وكانت تفيق في صباحات التعب والفقر والحياة .. وعجرفة على المستحيل تحمل كرامتها في كفها كشمس لا تقبل إلا السطوع ...
حمدة اغتيلت مثل بلقيس, ولكن اغتيالها لم يكن بانفجار سفارة .. كان بانفجار شريان في القلب رفض الصراخ والفوقية والتسلط والاستبداد ...
حمدة هي قصة الفقر النبيل , وليست قصة الثراء اللئيم.. حمدة قصة الأردني الذي ولد مثل الجبل، عصيا على الريح والمطر والعواصف.. ورصيده في بنك الحياة هو الكرامة ...
حمدة ....يجب أن تدخل في المنهاج , ليس كقصة موت.. بل قصة تؤكد أن الفقراء هم معاقل الكرامة والحياة ....صدقوني أنها أجمل من كل قصص الغرام التي صاغها الشعر العربي ...حمدة أهم من ريتا التي كتب عنها محمود درويش ..ريتا جميلة خلدت في قصيدة , ولكن حمدة شهيدة خلدت في تاريخ وطن ...وحمدة أهم من ليلى التي كانت مريضة في العراق ...أصلا هي لم تنتظر علاجا .. ولا طبيبا اختارت الموت انتصارا للمجد والكرامة , وحمدة الأردنية النبيلة والحبيبة والشهيدة ..هي أكبر من جوليت .. فلولا حب روميو لم تخلد جوليت , على الأقل حمدة عشقت الكرامة ولم تعشق رجلا.. والكرامة أسمى معنى في الحياة ...
انتصرنا لبنطال روبي الممزق, ولم ننتصر لقلب حمدة الذي انفجر .. حسنا يا شهيدة الفقر ..ويا أيقونة الضمير , ويا منبع الكرامة.. صدقيني أن ثورة في قلبي انطلقت لأجلك... وأن حروفي مهما بلغت من البلاغة درجات عالية, فلن تصل حد ذرة من الكبرياء المحمول على أهدابك .. صدقيني يا ابنة الأردن الحبيب.. أني لطمت عليك , وربما لو قدر أن يكون الورق (كربلائي).. والمدى هو (الطفوف) .. لتشيعت للفقراء الذين يحملون فجرهم, على أكفهم كنصل من العفة ..وينحرون الروح إن مست كرامتهم ...
مهزومون يا حمدة نحن ..مهزومون جدا , وها أنا أبكي على الناس وأبكي على حالي .. أبكي على الأيام والعروبة , والصباحات .. والخطى التي أتعبتنا ولم تتعب ...كيف أقمنا الدنيا ولم نقعدها لأجل بنطال ممزق ...ولم تشيعك الأكف , ولم تحملك الجباه ..ولم يطلق على قبر شهيدة الكرامة ...ألف طلقة , كنت تستحقين لقب شهيدة ..فالفرد إن لم ينتصر لكرامته ..لمن سينتصر إذا ....
يا حمدة ..ستأتيك الحساسين وأنت في مستقرك الأخير , ستأتيك من فلسطين وبغداد وتطوان ...سيأتي (ابو ذر الغفاري) سيد الفقراء ونصيرهم ... ووالله لو أنك استشهدت في زمنه , لرفع الكف عاليا وعاد للرفض.. سيأتي إلى قبرك المجد وسيأتي الورد ..والزمن العربي سيرتدي عباءة جديدة , ويقول أن الكرامة فيه استعادتها حمدة ...
نامي في مستقرك الأخير أيتها الشهيدة , سيدة الفقراء ..وعنوان الكرامة نامي في قبرك ..ونحن سنكمل مهرجاننا في الإنتصار لروبي ....
نامي يا حبيبة ...فالعلة فينا ليست فيك , أنت أثبت للتاريخ وللزمن أنك المنتصرة ونحن المهزومون ....حتى المرايا صرنا نخجل أن ننظر بها ..لحجم ما كرهتنا المرايا .