مدار الساعة - بعدما انتصر المماليك بقيادة سيف الدين قطز على المغول في معركة عين جالوت الشهيرة عام 1260، أصبحت دولة المماليك في مصر والشام هي الدولة الإسلامية الأبرز، وكان الخليفة العباسي المقيم في القاهرة هو مصدر هذه الشرعية التي جعلت السلطان المملوكي يحكم باسمه. في هذه الدولة المترامية الأطراف التي امتدّت في بعض فتراتها إلى الأناضول وتركيا الحالية، كانت هناك مدن مُزدهرة بطبيعتها، مثل دمشق، وكان هناك أفرادٌ حطّموا جمالها ونهبوها مثل تيمورلنك.
دولة المماليك في مصر والشام والخطران الصليبي من الغرب والمغولي من الشرق
بعدما اجتاح المغول الأراضي الإسلامية وأحرقوا بغداد عام 1258 وقتلوا الخليفة العباسي، أصبحت بقية الدول الإسلامية أراضيَ مفتوحة للغزو المغولي، حتّى كانت معركة عين جالوت الشهيرة -بعد سنتين من سقوط بغداد- التي أوقفت هذا التقدّم المغولي الذي لا يرحم.
المماليك
كان قائد المسلمين المظفّر سيف الدين قطز سلطاناً على مصر، وقبل تأسيس دولة المماليك كانت الدولة الأيّوبية عاصمتها القاهرة وامتدادها إلى الشام والحجاز واليمن. ورث المماليك تلك الرقعة، وورثوا أيضاً خطراً صليبياً- أوروبياً، فقد مضى قرابة قرن ونصف القرن من الاحتلال الصليبي لبعض مدن الشام الساحلية، وعلى المماليك الآن التصدِّي للخطرين الصليبي الأوروبي، والمغولي الآسيوي.
في السنوات الأولى لحكم الظاهر بيبرس، والذي يمكننا اعتباره المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية الضخمة، استطاع أن يصل بجيوشه للأناضول، كما استطاع كذلك هزيمة ابن هولاكو أباقا خان في أكثر من مواجهة، كما استطاع أيضاً أن يحارب الممالك الصليبية المتمركزة في الشام ويقضي على بعضها.
وهكذا استمرّ المماليك طيلة قرنين ونصف القرن من الزمان، في حكم وحماية الأراضي الإسلامية من الخطر الشرقي والغربي معاً.
لكنّ هذه الصورة الجميلة تُخفي وراءها صورةً أكثر قتامةً للدولة المملوكية، فقد كان السلاطين المماليك (عبيداً) بالأساس، يصعدون في السلّم العسكري للدولة، وأكثرهم قوةً وحنكةً (أو خبثاً ودهاءً) يصبح السلطان.
وهكذا كانت وفاة السلاطين وبالاً على الدولة، لأنّ قادة الدولة سيتصارعون فيما بينهم ليستولوا على السلطنة، وكانت هذه الأوضاع الداخلية التي كثيراً ما تتكرّر سبباً في ضعف الجبهة الخارجية في كثيرٍ من الفترات على مدار قرنين ونصف القرن، فترة حكم المماليك لمصر والشام.
المغول يدخلون الإسلام وينافسون المماليك!
بعد الهزائم المتتالية لمملكة المغول الإيلخانيين، التي تأسّست في فارس/إيران أمام دولة المماليك، وخصوصاً على يد الظاهر بيبرس والسلطان الناصر محمد بن قلاوون، كان أمام الخانات المغول خيار الدخول في الإسلام، ومن خلاله يمكنهم منافسة المغول على مناطق الحكم في الشام والأناضول وبعض أطراف العراق.
وهكذا أصبحت دولة المغول في فارس دولة مسلمة، أسلم خاناتهم والكثير منهم بالتبعيّة. وهكذا أصبح الصراع على الأراضي الإسلامية بين طرفين مسلمين، وليس بين طرف مسلم وطرف كافر.
خاضت الدولتان العديد من الصراعات كان ميدانها منطقة الشام، فلم يقدم المماليك على غزو فارس، ولم يقدم المغول على غزو مصر.
تيمورلنك
كان أحد حلقات هذا الصراع هو صراع تيمورلنك مع سلطان المماليك برقوق. ادعى تيمورلنك أنّه من نسل جنكيز خان من ناحية الأمّ، لكنّ مصادر تاريخية أخرى تقول إنّه من نسل أحد الوزراء المغول فقط.
ولد تيمورلنك عام 1336. كانت نشأة تيمورلنك بسيطة فيما يبدو، فإحدى القصص تذكر أنّه بينما كان يسرق الغنم انتبه الراعي فأصابه بسهمٍ في قدمه فأصابه عرج طوال حياته، ولهذا أصبح لقبه "لنك" أي "الأعرج".
أسّس تيمورلنك عائلةً ملكيةً مغولية. اعتبر تيمورلنك نفسه مسلماً، لكنّ قوانين دولته كانت قوانين جنكيز خان المسمّاه بـ"قانون الياسق". كما ادّعى تيمور أحياناً أنّه شيعي، بينما في لحظاتٍ أخرى قال إنّه سنيّ، والخلاصة أنّه كان دائم التلوُّن وفق ما تحتاجه السياسة والحكم.
كان على رأس دولة المماليك في فترة حكم تيمورلنك السلطان المحنّك الظاهر سيف الدين برقوق، الذي وللصدفة ولد في نفس عام ولادة تيمورلنك 1336.
وصل برقوق للحكم عبر سياسةٍ مُحكمة ودقيقة، باعتباره لم يكن من ضمن قادة الصفّ الأول في السلطنة، لكنّه كان ينظر للأفق البعيد ويرى نفسه سلطاناً. وهكذا استطاع التخلص من قيادات الصف الأول في القاهرة والشام، ليخلو له الجو ويصير سلطاناً.
في أواخر أيام سلطنته بدأ تيمورلنك تحرشاته بالدولة المملوكية في الشام وبعض أطراف العراق، لكنّ الجيش المملوكيّ كان قوياً يديره سلطان محنّك سياسياً وعسكرياً، إضافةً إلى أنّ الدولة العثمانية الناشئة كان سلطانها بايزيد يلدريم قد راسل السلطان برقوق لينسج معه حلفاً للتصدي لتيمورلنك.
تيمورلنك وبرقوق.. استراتيجية التوازن الدقيقة
كان تيمورلنك محنكاً هو الآخر، استطاع بناء دولة من الصفر، وكان يعلم أنّه لا يستطيع أن يواجه الجيش المملوكي الضخم إذا ما اتحد أيضاً بالجيش العثماني الناشئ والفتيّ في تلك الفترة.
كانت خُطط تيمورلنك واسعة وطموحة، فقد تحرّش بدولة المماليك والعثمانيين على السواء. لكنّ بوادر التحالف بين المماليك والعثمانيين جعلته يتراجع عن خطته بغزو الشام والأناضول، وعاد إلى إيران والهند ووسط آسيا.
لكنّ الفرصة الحقيقية كانت قدراً، فقد سنحت الفرصة لتيمورلنك عند وفاة السلطان برقوق عام 1399. بوفاة السلطان ستدخل الدولة في أتون الصراع على السلطة، ولن تعود قادرة على المواجهة معه في المدى القريب.
وبالفعل، دخلت السلطنة المملوكية في صراعٍ على السلطة. فقد ترك السلطان برقوق السلطنة لابنه فرج، الذي كان متهوراً غير موزون الرأي، فدخل معه قادة السلطنة الذين يرون أنفسهم أكفأ منه في صراع.
وفي هذه الأجواء كان تيمورلنك يعدّ جيشه الضخم لخوض معركةٍ في العالم الإسلامي مرةً أخرى، فما لم يستطع أن يحققه هولاكو وابنه ربما يستطيع أن يحققه تيمورلنك بدعوى "الإسلام".
بعد وفاة السلطان برقوق انطلق تيمورلنك مباشرةً إلى مدينة سيواس في الأناضول -وسط تركيا الحالية- التي كان يحكمها سليمان، ابن السلطان بايزيد الأول، واستطاع أن يسيطر عليها خلال أسبوعين تقريباً، وتقدّم في المدن العثمانية، لكنّه ارتأى أن يؤمن جيشه من ناحية المماليك، فقرر أن يراسل أمراء الشام من المماليك يستميلهم إليه، ولما رفضوا قرّر الهجوم على المناطق المملوكية في بلاد الشام كلها، فانطلق إلى حلب.
دارت في حلب معركة قوية للغاية بين أمراء الشام المماليك وجيش تيمورلنك. أرسل أمراء الشام رسالةً للسلطان فرج بن برقوق يخبرونه فيه بتحرشات تيمورلنك، لكنّ السلطان كان هو وحاشيته "في وادٍ آخر"، على حد تعبير المؤرخ محمد سهيل طقوش، في كتابه "تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام".
خرج الجيش المملوكي لمواجهة تيمورلنك خارج أسوار المدينة، لكنّهم انهزموا، وهاجم تيمورلنك بكل قواة قلعة حلب، التي انهارت مقاومة أهلها في النهاية. وبعد حلب، كانت وجهة تيمورلنك إلى دمشق.
ولكن مهلاً، هل يترك السلطان فرج بن برقوق دولته تنهار بهذا الشكل؟ ألن يُنجد رعيّته وشعبه ودولته وسلطانه؟
بالطبع، فقد وصل السلطان وعساكره المصرية الهائلة إلى دمشق وعسكروا خارجها، قبل أن يصل إليها تيمورلنك وجيشه، ويبدو أنّ تيمورلنك لم يرغب في مواجهةٍ مباشرةً وفاصلة مع الجيش المملوكي، فقد كانت الجبهة المملوكية مفككة وحدها، فلماذا يدخل في معركة ويواجه إمكانية الخسارة، بينما يمكن له العمل بهدوء لتفرقة الجبهة الداخلية المنهارة أصلاً؟
وهكذا حدثت بعض المناوشات بين فرق من جيش المماليك وفرق من جيش تيمورلنك، وفي أحد الأيام استيقظ السلطان المملوكي فرج بن برقوق، ليجد أنّ بعضاً من كبار القادة والأمراء قد غادروا المعسكر، وسرت شائعات بأنّهم عادوا إلى القاهرة لتنصيب أحدهم سلطاناً بديلاً عن فرج بن برقوق، فعاد السلطان أدراجه تاركاً دمشق وأهلها لمصيرهم المحتوم في مواجهة تيمورلنك وجيشه.
صمدت مدينة دمشق أمام الحصار، ولكنهم في النهاية أرسلوا وفداً كان فيه المؤرخ الشهير ابن خلدون، استطاع تيمورلنك أن يخدع أعضاء الوفد ويطمئنهم أنّه لن يدمّر المدينة إذا سلموها، وما إن سلموها حتّى قبض على بعضهم وعاث جنوده وقادته فيها فساداً ونهباً.
لكنّ قلعة دمشق لم تستسلم، وظلّت تقاوم طيلة 29 يوماً، حتّى استسلم قائد حاميتها في النهاية.
بعدما حقّق تيمورلنك غرضه من تخريب الشام وزعزعة حكم المماليك فيها، انسحب إلى بلاده، فقد قاربت المؤونة على النفاذ، ولم يعد له ولجنوده موضع في تلك البلاد.
انسحب تيمورلنك تاركاً الدولة المملوكية تعاني الفوضى الكاملة، وليجهز نفسه لغزوته الأكبر بعد سنةٍ واحدة، ففي عام 1402 سيهزم الدولة العثمانية في معركة أنقرة الشهيرة ويأسر السلطان بايزيد يلدريم الذي مات أثناء حبسه، لتدخل بذلك الدولة العثمانية أيضاً في مرحلة دمار احتاجت إلى أكثر من 20 عاماً لتعود وتستقرّ بعدها.
عربي بوست