مدار الساعة - أرسل مكتب التحقيقات الأمريكي (FBI) للسلطات المصرية معلومات دقيقة عن ثلاثة شباب مصريين من قرية دكرنس في محافظة الدقهلية عام 2008، وأرفق مع المعلومات مذكرة اعتقال فوري. تفاجأت الحكومة المصرية بهذه المذكرة، وأرسلت تسأل ما الذي فعله هؤلاء الشباب؟ وكان الرد من «إف بي آي» صادمًا: هؤلاء الشباب «هاكرز» أي قراصنة إنترنت، ويعملون في تنظيم إلكتروني لسرقة البنوك، وقد نجحوا بمساعدة ثلاثة شباب أمريكيين أسسوا المجموعة في الحصول على مبالغ مالية تقدر بملايين الدولارات من سرقة الحسابات البنكية من بنوك الولايات المتحدة الأمريكية!
تحركت الحكومة المصرية وألقت القبض على الشباب الثلاثة بالفعل، علاوة على 33 شخصًا آخر يعملون معهم، وحُكم بإدانتهم وسجنهم عام 2009. لكن سرقة البنوك لم تبدأ فقط منذ تطورت مهارات البشر التقنية واستطاعوا قرصنة الحسابات، بل مرت بالعديد من المراحل والمحطات، بدءًا من المسدسات الصغيرة وانتهاءً بضغطة زر بسيط على لوحة مفاتيح.
أول حادثة مسجلة لسرقة البنوك كانت في أمريكا
يرتبط تاريخ ظهور البنوك بتأسيس وتطور الحضارات البشرية القديمة، لكن مصطلح ومفهوم البنوك بشكلها الحالي ظهر في التاريخ لأول مرة في مدينة البندقية في إيطاليا خلال العصور الوسطى. إذ تأسس أول بنك تجاري فعلي في مدينة البندقية عام 1517، ثم هولندا وإيطاليا عام 1609، ومن ثم انتشرت فكرة البنوك في كافة أنحاء القارة العجوز ثم أمريكا.
مع قيام الثورة الصناعية احتاجت الدول للمال، واحتاجت البنوك فتح فروع لها في دول أخرى لرعاية استثماراتها، ما أدى إلى انتشار البنوك بشكل أوسع، وظهرت البنوك المتخصصة الزراعية والصناعية وغيرها، وظلت البنوك تتطور وتغير في القوانين والمعاملات باستمرار وفقًا لمتطلبات كل عصر، حتى وصلت لشكلها ونظامها الحالي.
سجلت أول حادثة سطو مسلح وسرقة بنك في التاريخ الأمريكي في 13 فبراير (شباط) 1866، حين اقتحم المجرم المسلح جيسي جيمس أحد بنوك المدخرات في ولاية ميسوري بأمريكا، وأطلق النار على موظف البنك، ثم سرق آلاف الدولارات وفر هاربًا.
خطط جيمس ونفذ عدة عمليات سرقة بنوك وظلت الحكومة تطارده لمدة 15 عامًا دون جدوى، ومنذ ذلك الوقت انتشرت سرقة البنوك بشكل كبير في أوروبا وكل أنحاء العالم، ففي عام 1907 قام البلاشفة بعملية سطو مسلح على مدخرات أحد البنوك من أجل تمويل ثورتهم، وقد عرفت هذه الحادثة باسم سرقة بنك تيفليس، وخلفت العديد من الضحايا ما بين جرحى وقتلى، ونجح البلاشفة في سرقة ما يعادل قيمته 3 مليون دولار أمريكي في وقتنا الحالي، ثم تبع ذلك عدة سرقات بطريقة السطو المسلح في جميع أنحاء أوروبا (هولندا والدنمارك والسويد وغيرها).
وبالعودة إلى أمريكا في مطلع القرن العشرين، ومع بداية الكساد الكبير، بدأت حقبة الجريمة المنظمة والعصابات وسرقة البنوك، فأُعد قانون «العدو العام» الذي يشير إلى لصوص البنوك باعتبارهم عدوًّا مباشرًا للدولة وللجميع، وظهرت العصابات وزادت مطاردات ومهام الشرطة، ثم أصبحت سرقة أي بنك وطني أو بنك عضو في نظام الاحتياطي الفيدرالي جريمة فيدرالية في عام 1934، وسرعان ما توسع القانون ليشمل السطو على البنوك والسرقة والجرائم المماثلة.
وقد اشتهرت أمريكا بالعديد من العصابات ولصوص البنوك، حتى أصبحت قصصهم محط اهتمام صناع السينما والروايات فيما بعد، ومن أشهر لصوص سرقات البنوك في التاريخ الأمريكي، عصابة جون دلنجار، وعصابة بوبي وكيد، وتشارلز فلويد الملقب بـ«بريتي بوي»، والمجرم المشهور كيلي الرشاش وغيرهم الكثير، وقد سيطرت المافيا والعصابات علي سرقات البنوك حتى النصف الثاني من القرن العشرين.
فترة الازدهار.. لوس أنجلوس عاصمة السطو المسلح في العالم
ازدهرت عمليات سرقة البنوك الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد من السبعينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي. انتشرت فكرة السرقة بالسطو المسلح في كافة أنحاء أمريكا خاصة في لوس أنجلوس فقد كانت بقعة مثالية لتطور تاريخ حوادث سرقة البنوك، وكانت المهمة تتعلق في الأساس بالنجاح في إدخال سلاح ناري داخل البنك وبذلك تنقضي نصف المهمة تقريبًا.
بين عامي 1980- 1995 أطلق على مدينة لوس أنجلوس عاصمة عمليات السطو المسلح على البنوك في العالم، ونتيجة الرواج الاقتصادي للمدينة وتجارة وتعاطي الكوكايين الرخيص المتوفر، زادت عمليات سرقة البنوك بشكل كبير، وقدرت الإحصائيات في ذلك الوقت أن كل 40 دقيقة كانت تقع عملية سطو مسلح على بنك في أمريكا.
فعل سبيل المثال، دخل رجل يدعى يانكي بانديت إلى بهو بنك أمريكا في منطقة ميلروز في لوس أنجلوس عام 1983، ثم وقف في طابور الانتظار مثل العملاء الآخرين، وعندما وصل إلى نافذة الصراف والحسابات، ابتسم ابتسامة عريضة وبنبرة صوت هادئة، أخبر الموظفة الجالسة بأدب أنه يحمل مسدسًا، وسألها إن كان بإمكانها تسليم النقود.
أخرجت الموظفة 1740 دولارًا وأعطتها ليانكي الذي وضعها في حقيبة، واعتذر لها عن أي مشكلة سببها وشكرها وغادر مسرعًا، لكن يانكي بانديت لم يكتف بهذه العملية وقام بستة عمليات سطو مسلح أخرى على البنوك في لوس أنجلوس في اليوم نفسه ونجح فيهم جميعًا! كما نجح في تنفيذ 64 عملية سرقة بنك أخرى على مدار عدة تسعة شهور حتى ألقي القبض عليه، وبالطبع ألهمت حادثة يانكي العديد من اللصوص واستفحلت عمليات السطور على البنوك في لوس أنجلوس.
لكن.. لماذا انتشرت جريمة السطو المسلح على البنوك في لوس أنجلوس؟
هناك العديد من الأسباب التي ساعدت على انتشار جريمة السطو المسلح على البنوك في لوس أنجلوس.
1. الاقتصاد المزدهر للمدينة ورواج الكوكايين يأتي على رأس الأسباب، فازدهار الاقتصاد يعني توافر الأموال في البنوك وكثرة عمليات الإيداع، بينما نتج عن رواج الكوكايين العديد من المدمنين الذين كانوا يبحثون عن أي مصدر أموال لشراء المخدر.
2. تحذير مكتب التحقيقات الفيدرالي للبنوك، فقد كان هناك قاعدة ثابتة بين موظفي البنوك تفيد بأنه في حال تعرض أي موظف لعملية سطو مسلح، عليه أن يتبع سياسة «لا مقاومة»، ويعطي أي أموال كانت للصوص فورًا، فحياة الموظف أهم من المال، الأمر الذي ساعد اللصوص بشدة فقد ضمنوا عدم وجود أي مقاومة.
3 انعدام الأمن بشكل عام وغياب التخطيط الهندسي المناسب في البناء، إذ كانت البنوك تتصارع فيما بينها في اجتذاب أكبر قدر ممكن من العملاء، ووجدوا أن الراحة النفسية من أهم عوامل جذب الجمهور، ولأن وجود عناصر أمن كثيرة تملأ المكان قد يعكر الصفو العام داخل البنك وفي محيطه؛ قامت البنوك بتهميش الإجراءات الأمنية تقريبًا لجذب العملاء.
ففي سبيل تحفيز الجمهور بشكل أكبر على زيارة البنك وتحقيق الراحة وربما عمل إيداع وتحقيق الربح، وقعت البنوك في أخطاء كثيرة، ففي السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات كانت البنوك أشبه بمحطات وقود السيارات أو الكافيهات، تدخل ساحة البنك فتجد الراحة والمأكولات والمشروبات وساحات الانتظار، إلى جانب عدم وجود أي إجراءات أمنية، ما جعل مهمة أي لص بنوك سهلة وآمنة على حد سواء.
من الناحية الهندسية، وقعت البنوك أيضًا في خطأ فادح، كان تصميم مباني ومقرات البنوك على قمم وشوارع الطرق السريعة وطرق السفر، دون النظر إلى أثر ذلك في حالة وقوع حادثة سطو مسلح. تخيل بنكًا على الطريق السريع، مجهزًا للراحة والأمان، لا يوجد به حراس وإجراءات أمنية، لا يقاوم موظفوه اللصوص! فرصة مثالية وحلم لأي لص بنوك.
ماكينات الصراف الآلي هدف لصوص البنوك أيضًا
ظهر نوع جديد من سرقات البنوك بعد ستينيات القرن الماضي، وذلك عقب شروع العالم في استخدام ماكينات الصراف الآلي التي شهدت طفرة في أواخر التسعينيات، ومعها لم تعد تقتصر عمليات سرقة الحسابات البنكية على مراكز البنوك فقط، بل شملت سرقة الحسابات البنكية أو الأموال من ماكينات الصراف الآلي في الشوارع والمطاعم والأسواق التجارية وأي مكان مناسب.
في البداية كان الأمر تقليديًّا، يقوم اللصوص بمحاولة تحطيم الماكينات وسرقة الأموال، أو سرقة ماكينة الصراف الآلي بأكملها، أو التربص بالعملاء المستخدمين لخدمة الصراف الآلي وسرقتهم، وما زالت الطريقتان مستخدمتين حتى الآن، لكن مع بداية القرن الواحد والعشرين بدأ اللصوص في استخدام المعدات التكنولوجية الحديثة وطرق الاختراق لسرقة أجهزة الصراف الآلي أيضًا.
وقد وقعت العديد من الحوادث حول العالم لسرقات أجهزة الصراف الآلي بطريقة الاختراق الإلكترونية وغيرها، وتتكبد البنوك والعملاء خسائر بملايين الدولارات سنويًّا بسبب ذلك النوع من السرقات، ومن الجدير بالذكر أنه لا توجد إحصائيات دقيقة حول الخسائر بسبب سرقات أجهزة الصراف الآلي في العالم؛ لكن قد تقدر الخسائر بملايين من الدولارات، وفقًا لقيمة الأموال المسروقة في الحوادث التي نشر تفاصيلها على الأقل.
فعلى سبيل الذكر لا الحصر، نجحت عصابة دولية من القراصنة في سحب 45 مليون دولار من آلاف ماكينات الصراف الآلي حول العالم بين عامي 2012-2013، وهناك حوادث أخرى كثيرة مسجلة جرى فيها سرقة ملايين الدولارات من ماكينات الصراف الآلي في عدة دول حول العالم ( أمريكا- اليابان- الهند وغيرهم).
عصر السرقات البنكية الإلكتروني
مع نهاية التسعينيات ودخول الألفية، ساعد التقدم التكنولوجي الكبير على إنهاء الإجراءات غير الأمنية في البنوك، فجرى مراعاة الأمن في هندسة البناء، وأصبحت البنوك تُشيد في أماكن إستراتيجية داخل البلدان بعيدًا عن الطرق السريعة والمفتوحة، وحدثت طفرة كبيرة في مجال التأمين والحماية والسلامة المدنية، إذ وضعت أجهزة اكتشاف المعادن لمنع دخول الأسلحة.
أمدت الحكومات البنوك بأجهزة حديثة ساعد التقدم التكنولجي الهائل في صناعتها، مثل كاميرات المراقبة الحديثة وأجهزة الإنذار المرتبطة بدوائر الشرطة مباشرة وأجهزة المسح والزجاج العازل والخزائن المنيعة ذات الأقفال المعقدة، تراجعت حوادث سرقات البنوك بطريقة السطو المسلح في مطلع القرن الحالي، ومهد ذلك لعهد سرقات جديد، أكثر احترافًا وأقل مجهودًا وأكثر فعالية، عصر السرقات الإلكتروني.
وقعت أول حادثة اختراق إلكتروني لبنك في أمريكا عام 1996، حين حدثت عملية اختراق إلكترونية للحسابات، جعلت من الممكن تحويل الأموال لأي بنك في العالم، وسرق اللصوص حينها أموال بقيمة 10 ملايين دولار، جرى سحبها من سيتي بنك، ما فتح الباب أمام عهد السرقات الجديد.
تعود قصة قراصنة الإنترنت المصريين التى جرى الإشارة لها في بداية الموضوع، إلى عام 2004 حين أسس ثلاثة شباب أمريكيين، مجموعة من قراصنة الإنترنت حول العالم بقيادة الشاب كينيث جوزيف لوكاس، يعملون في عدة أشياء بخصوص التعقب والاختراق. بعد بعض الوقت قررت المجموعة اختراق الحسابات البنكية، وأنشأوا صفحات تشبه صفحات مواقع البنوك والروابط وكافة وسائل التواصل، ليتواصلوا مع عملاء البنك عن طريق البريد الإلكتروني، ويطلبون بعض البيانات للتحديث، ومن ثم يخترقون الحساب ويسرقون الأموال من خلال تحويلها لحسابات أخرى في بلدان خارجية.
أدرك كينيث منذ البداية أن السلطات الأمريكية ستأتي للقبض عليهم إما عاجلًا أو أجلًا، لذلك قرر نقل مقر ومسرح العمليات إلى أي دولة أخرى، تكون فيها الظروف الأمنية أقل تطورًا، والمعرفة الأمنية بمجال الإنترنت فيها أقل من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد البحث والتقصي اختارت المجموعة مصر مسرح للعمليات، ووقع الاختيار على ثلاثة شباب من قرية دكرنس محافظة الدقهلية، ليكونوا مسؤولين عن العمل ومن خلالهم تجري عمليات سحب وتحويل الأموال والحصول على المعلومات اللازمة.
قام الشباب الثلاثة المصريين بتجنيد عشرات الأشخاص من داخل وخارج مصر للعمل معهم، إذ كانت تُرسل لهم معلومات التواصل مع عملاء البنوك من أمريكا، فيقومون بالتواصل معهم وطلب المعلومات والبيانات، ثم تُسحب الأموال وتحول لحساب في البرتغال يقوم بتحويل الأموال بطرق مختلفة إلى أمريكا، ثم يقوم كينيث ومجموعته في أمريكا بإرسال نصيب المجموعة المصرية على هيئة حوالات في مكاتب «ويسترن يونيون».
قبض على أكثر من 100 شخص في أمريكا ومصر على ذمة تلك القضية عام 2009، وتمت إدانتهم جميعًا وصدر ضدهم أحكام، لكن قبل ذلك؛ نجحت مجموعة القراصنة في الاستمرار لمدة أربع سنوات قاموا خلالها بسرقة ملايين الدولارات، ليعرف العالم والحكومات أن تاريخ سرقات البنوك تخلى عن أسلوب السطو المسلح وبدء عصر السطو الإلكتروني، إذ فتح نفق مظلم لسرقة البنوك إلكترونيًّا عن بعد بالاعتماد على التقدم التكنولوجي وعصر الإنترنت. لكن أيضًا على جانب آخر، كان التطور الإلكتروني أيضًا السبب في تقليل عدد عمليات السطو المسلح ومحاولة إنهائها تمامًا.
وتجدر الإشارة إلى أن عمليات القرصنة الإلكترونية انتشرت في وقتنا الحالي بشكل كبير، وشملت الأفراد والبنوك والشركات وحتى الحكومات، وتقدر شركة سيكيورتى فينتشرز أن العالم سيتكبد نحو 6 تريليونات دولار، بسبب عمليات القرصنة عام 2021، بالمقارنة مع 3 تريليونات دولار فقط فى عام 2015، وهو ما يزيد على أرباح تجارة المخدرات فى العالم، ويمثل هذا المبلغ أكبر عملية نقل للثروة فى التاريخ!