مدار الساعة - كتب المؤلف بريندان ساينسبري مقالًا نشره موقع هستوري نت عن المدة التي قضاها الروائي وكاتب القصة القصيرة والصحافي المعروف إرنست همينجواي في كوبا، والتي يقال إنه كان يتعقب خلالها الغواصات الألمانية في قارب صيد محمَّل بالأسلحة الثقيلة والقنابل.
ويستهل الكاتب مقاله بذكر تفاصيل عن الرحلة التي قام بها لكوبا لتتبع آثار هيمنجواي، فيقول: كان هدوء مخيف يسود الأجواء يوم وطأت قدماي كايو جييرمو، وهي جزيرة استوائية صغيرة في أرخبيل جاردين ديل ري أو «حدائق الملك» الواقعة قبالة الساحل الشمالي لكوبا. لقد قضت جائحة كوفيد-19 على صناعة السياحة في البلاد، وكانت معظم الفنادق مغلقة وخاوية على عروشها. ويُعد فندق جران مود الذي شُيَّد مؤخرًا هو المكان الوحيد الذي يعمل، حيث ينزل في غرفه البالغ عددها 500 غرفة 26 ضيفًا فقط؛ كنتُ أنا واحدًا منهم.
الزيارة الخامسة والعشرون لكوبا
يقول الكاتب إنها زيارتي الخامسة والعشرون لكوبا، لكنها المرة الأولى التي أقمتُ فيها بكايو جييرمو. ولم يكن أمامي كثير من الخيارات. وخلال المرحلة الأولى من إعادة فتح البلاد بعد جائحة كوفيد-19، كانت لا تزال بقية البلاد مغلقة. ومع ذلك، وفي ظل وجود نسخة من رواية إرنست همينجواي جزر في المجرى (Islands in the Stream) في حقيبتي، كان لدي دافع خفي لخوض غمار الرحلة.
كان هذا هو المكان الذي جاء إليه «البابا (لقب اشتُهِر به هيمنجواي)»، كما اعتاد أصدقاؤه أن ينادوه، للبحث عن الغواصات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد أبحر هيمنجواي برفقة طاقم متنوع من الصيادين ورواد الحانات واللاعبين شبه المتقاعدين للعبة بيلوتا، وهي رياضة للكرة في إقليم الباسك، في قاربه «بيلار» في الجزر الشمالية البرية في كوبا. وفي الظاهر كانت سفينة صيد، ولكن بيلار كان يحمل سرًّا قنابل يدوية، ومدافع رشاشة، وقاذفات صواريخ.
لقد كانت تجربة حوَّلها هيمنجواي إلى خيال في روايته المنشورة بعد وفاته «جزر في المجرى». ولكن، مثل عديد من قصص البابا، غالبًا ما تختلط الحقيقة بالأسطورة.
ومن الصعب أن تتجنب حياة هيمنجواي في كوبا. إنه الشبح الذي يحمل اسم «إرنست» الثاني الذي يحظى باحترام كبير على مستوى البلاد بعد إرنست «تشي» جيفارا، ويتردد صداه في كل مكان، من ألفلوريديتا، وهي حانة في هافانا يقال إنه احتسى فيها 13 كأسًا من الكوكتيل في جلسة واحدة، إلى منزله السابق المليء بالكتب، فينكا فيخيا، حيث يمكنك أن تنظر من خلال النوافذ إلى الصور الثابتة لحياة البابا في خمسينات القرن الماضي.
وكايو جييرمو منطقة إغراء أحدث. وحتى أوائل التسعينات، كانت الجزيرة غير مأهولة بالسكان، لكن موجة لاحقة من بناء الفنادق المصممة لجذب السياح المحرومين من الشمس غيَّرت مظهرها تغييرًا جذريًّا.
واليوم، تضم الجزيرة التي تبلغ مساحتها 5 أميال مربعة (8 كم) مع مستنقعات المنجروف اللامعة وطيور النحام المقيمة، تسعة منتجعات شاملة كليًّا ومراكز تسوق تنبض بالحيوية نظرًا لصلات هيمنجواي بها. وبين الشواطئ الرملية الناعمة، والرؤوس البحرية من الحجر الجيري، يوجد مركز تسوق هيمنجواي ورصيف هيمنجواي الخشبي.
وفي الحافلة من المطار، رصدتُ ثلاثة تماثيل للكاتب تزين الجسر الذي يربط جييرمو بجزيرة كوكو. وفي وقت لاحق من بعد ظهر ذلك اليوم، كنتُ أتجول عبر شاطئ جييرمو الرئيس، وهو شاطئ جميل ذو رمال بيضاء يحمل اسم بلايا بيلار على اسم سفينة صيد «البابا» التي تحوَّلت إلى قارب تجسس.
والشاطئ الذي غالبًا ما يكون مزدحمًا بالسياح في الأوقات العادية، كان خاليًا. ورحتُ أستمتع بالهدوء العميق وأتطلع إلى البحر؛ حيث أبحر هيمنجواي منذ ما يقرب من 80 عامًا، مسلحًا بالخمور، وطُعْم السمك: والبازوكا (سلاح أمريكي قاذف للصواريخ يحمله الأفراد ليكون مضادًا للدبابات)، ومضى سرًّا في قارب بيلار بحثًا عن الغواصات الألمانية.
تهديد الغواصات الألمانية كان حقيقيًّا
وشدد الكاتب على أن تهديد الغواصات الألمانية كان حقيقيًّا للغاية في المياه الكوبية خلال الحرب العالمية الثانية. وكانت كوبا قد أعلنت الحرب على ألمانيا في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1941 – في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة ذلك – وسرعان ما انجرفت إلى معركة الأطلسي.
وبحلول ربيع عام 1942، كانت الغواصات الألمانية تُغِرق حوالي 15 قاربًا تابعًا للحلفاء شهريًّا في المياه الكوبية. وبسبب نقص القوة النارية، ناشدت البحرية الأمريكية أصحاب اليخوت المحليين، وعرضت عليهم الأموال لإعادة تجهيز قواربهم بالأسلحة. وفيما يخص أشهر صياد مقيم في كوبا، كانت هذه فرصة لا يمكن تفويتها.
وأثار تجهيز بيلار ليكون قاربَ تجسس مسلحًا إحساس هيمنجواي بالمغامرة. ولأنه كان يتحرق للعمل بعد عودته إلى كوبا من تغطية الحرب الأهلية الإسبانية، تخيل نفسه يحارب لعنة الفاشية ويُسهم إسهامًا إيجابيًّا في المجهود الحربي الأمريكي. ومن خلال التظاهر بأنه سفينة صيد غير ضارة، سيخدع القارب بيلار الغواصات الألمانية للاقتراب دون حذر ثم يطلق هيمنجواي – في لمح البصر – الذخيرة الثقيلة.
وإذا بدت المهمة بعيدة المنال، فقد كانت كذلك. وكان من الصعب تخيل فرص القارب بيلار في مواجهة غواصة ألمانية تحمل طوربيدًا ومزودة بمدفع على سطح السفينة عيار 88 ملم. ووفقًا للمؤرخ نيكولاس رينولدز في كتابه الذي نشر عام 2017 تحت عنوان، «كاتب وبحار وجندي وجاسوس: مغامرات إرنست هيمنجواي السرية 1935-1961»، اعترف هيمنجواي لاحقًا بأن العملية برمتها كانت «غير محتملة بالمرة» لدرجة أنه لا أحد يصدق أنها حدثت.
السفير الأمريكي يوافق على مهمة هيمنجواي
وعلى الرغم من ذلك، وافق سفير الولايات المتحدة في كوبا، سبريل برادين، على المهمة التي كانت تبدو انتحارية، حيث قدَّم للكاتب الذخائر، ومعدات اللاسلكي، ووعودًا بالسرية. وعلى ما يبدو فإن برادين، الذي عمل بالفعل مع هيمنجواي في عملية تجسس كوبية لم تدم طويلًا، كانت تحمل اسم «مصنع المخادعين»، كان معجبًا جدًّا بوطنية «البابا» وقدراته الخفية لدرجة أنه تحايل على اللوائح العادية لدعمه.
ولم يكن المراقبون الآخرون، بمن فيهم زوجة هيمنجواي في ذلك الوقت، مارثا جيلهورن، واثقين جدًّا من ذلك. وكانت مارثا مراسلة حربية شجاعة تتوق للعودة إلى الصراع في أوروبا بعد خدمتها في إسبانيا. ووفقًا لما ذكره رينولدز، فقد رأت أن تعقُّب زوجها المفرط في حماسه للغواصات الألمانية لا يعدو أن يكون «مجرد وسيلة لقبطان القارب بيلار للحصول على الوقود الذي كان نادرًا في زمن الحرب لقاربه حتى يتمكن من الصيد والشراب مع أصدقائه». غير أن هيمنجواي الذي لم يثنه شيء بسبب عناده جمع طاقمه وانطلق فيما أطلق عليها «عملية بلا أصدقاء».
يقول الكاتب: ولكي أشعر بمغامرات هيمنجواي في تعقب الغواصات الألمانية، قررتُ أن أخوض في المياه بنفسي. ونزلت إلى الشاطئ أمام فندقي وأقنعت مشغل قوارب كوبي عاطل عن العمل أن يأخذني في رحلة صيد. وبعد 30 دقيقة، كنت أتمايل على بعد نصف ميل من الشاطئ على طواف صغير يعمل بالشراع، وأشعر بوضوح بما كان يعايشه هيمنجواي فيما أحاول جذب سمكة باراكودا عنيدة.
وعندما أنظر إلى الوراء إلى جييرمو التي تشبه الكعكة المستوية، المصطفة هذه الأيام بالفنادق، أتذكر الذروة الدرامية في رواية جزر في المجرى.
وبعد أيام من تعقب غواصة ألمانية مصابة، قام بطل الرواية الأمريكي توماس هدسون وطاقمه بإلقاء القبض على الناجين الأذلاء في قناة مليئة بأشجار المنجروف خلف كايو جييرمو. ويحدث تبادل لإطلاق النار ويصاب هدسون – كما هي عادة أبطال هيمنجواي العاديين المعيبين بجروح قاتلة.
الواقع والخيال
ومن وجهة نظر هيمنجواي، لم يكن الواقع بطوليًّا مثل الخيال. وفي المدة من عام 1942 حتى عام 1943، أمضى الكاتب الجزء الأكبر من العام فيما يسمى برحلات الحرب البحرية، لكنه لم يرَ إلا غواصة ألمانية واحدة محتملة – من مسافة بعيدة. وفي محاولة للاقتراب بما يكفي لإطلاق البازوكا، طاردَ سفينة غامضة فحسب لكي تسرع في الحال وتختفي.
وكان هذا هو ما حدث. وبصرف النظر عن كتابة سجلات السفن وإرسال رسائل لاسلكية مشفرة إلى هافانا، أمضى هيمنجواي وطاقمه ما تبقى من دورياتهم الطويلة في لعب الورق، ورمي القنابل اليدوية على عوامات الإرشاد، وشعروا بالملل وشربوا حتى الثمالة إلى أن أعياهم السُكْر.
وبحلول صيف عام 1943 كانت الحرب قد انقلبت ضد المحور، وكان تهديد الغواصات الألمانية يتضاءل. واستدعت رسالة مشفرة هيمنجواي للعودة إلى هافانا، وانتهت «عملية بلا أصدقاء».
في حين أن تعقب الغواصات الألمانية ربما كان غير مثمر، إلا أن هيمنجواي كان محقًا بشأن الصيد. وخلال رحلتي البحرية القصيرة بالطوف قبالة جييرمو، اصطدت أربع أسماك باراكودا في أقل من ساعتين. وبعد أن أعادني عامل تشغيل القارب إلى الشاطئ، تجولت عبر رصيف هيمنجواي الخشبي وصولًا إلى جسر هيمنجواي لإلقاء نظرة فاحصة على التماثيل. ويصوره تمثالان في أوضاع الصيد.
والثالث يظهره وهو يرفع يده بالتحية. وتقفز الأسماك في القناة الضحلة أسفل الجسر، بينما تقف مجموعة من الصيادين المتفائلين في الأعلى، ويدلَّون في المياه خيوطًا تتدلى من صنانير صيد يبدو أنها رخيصة الثمن.
هيمنجواي والسياحة في كوبا
وعلى الرغم من الحظر التجاري الأمريكي المفروض منذ 60 عامًا، لا يزال الكوبيون يحبون الروائي الأمريكي العظيم. وسمِّي المرسى الرئيس في هافانا باسمه تكريمًا له، وتقدِّم جميع وكالات السفر الجديرة بالاحترام التي تديرها الدولة جولة مميزة عن هيمنجواي.
وفي الوقت نفسه، لا يزال كتَّاب السِّير منقسمين بشأن جدوى جهود هيمنجواي الحربية في كوبا. وكتب رينولدز أنه «أخذ العمل بجدية ووضع كل طاقته وحماسه في المهمة»، بينما يشير كينيث لين، مؤلف سيرة هيمنجواي عام 1995، إلى أن الأمر برمته كان مسألة «لهو».
وكان السفير برادين مسرفًا في مدحه في ذلك الوقت، مدعيًا أن «البابا» قدَّم إسهامًا حقيقيًّا في المجهود الحربي. وكان الكابتن راميريز ديلجادو، الكوبي الوحيد الذي أغرق غواصة ألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، أقل حماسًا، ووصف الكاتب بأنه «فتى مستهتر يصطاد الغواصات باعتبارها نزوة».
يضيف الكاتب: ومن وجهة نظري الشخصية، لطالما أعجبت بهمنجواي لنثره المحكم وقصصه الرائعة، في الوقت الذي أدرك فيه المبالغة التي تحيط بشخصيته المثيرة للإعجاب إلى حد بعيد. وربما كان من المشاهير، لكنه لم يكن جبانًا. وتصرف الكاتب ببسالة في الحرب العالمية الأولى، وعمل خلف خطوط العدو في الحرب الأهلية الإسبانية، وسيمضي لتقديم التغطية الصحافية بشجاعة من نورماندي.
ويختتم الكاتب مقاله قائلًا: ومن وجهة نظري، كانت مغامرات هيمنجواي في كوبا مجرد زلة. هل كان ساذجا؟ نعم، أو يائسًا؟ ربما. ولكن لو كان الحظ قد مضى به في طريق آخر، فربما كانت الأمور قد سارت على نحو مختلف. مثل ذلك الكاتب الأمريكي الجريء الآخر، جاك لندن، الذي غامر بثقة بالرحيل إلى كلوندايك قبل 50 عامًا بحثًا عن الذهب، ولم يجد هيمنجواي أي ذهب، لكنه اكتشف كثيرًا من المواد الخام التي نَسَج منها قصصه ورواياته.