انتخابات نواب الأردن 2024 أخبار الأردن اقتصاديات دوليات جامعات وفيات برلمانيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات مقالات مختارة مناسبات شهادة جاهات واعراس الموقف مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة

الطفل أبو الرَجُل

مدار الساعة,مقالات مختارة,طلال بن عبدالله,ساندهيرست,الملكة زين,الملك عبدالله الثاني,ولي العهد,الأمم المتحدة,الجامعة الأردنية,جامعة الحسين التقنية
مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/02 الساعة 23:49
حجم الخط

أجاب طفل على سؤال ورد في امتحان «ما اسم العِلْم الذي يصنف الكائنات الحية؟». فأجاب الطفل «العنصرية».

جواب خاطئ ولكنه يحمل معاني كبيرة. وللأطفال أحيانا اجابات عفوية مضحكة، لكنك لو تأملت بها ملياً لرأيت أن هذا الطفل الذي قالها يسكن في داخله رجل يتوق إلى الخروج من سجن الجسد الصغير. وفي هذا الاطار، فإنني أحببت اقتباساً ممتازاً قاله «بابلو بيكاسو» الرسام الاسباني الشهير «لقد أمضيت أربع سنوات من عمري لكي أرسم مثل «رافايل»، ولكنني أمضيت عمراً بأكمله لكي أرسم كطفل صغير».

ويروى عن أبي العلاء المعري أن طفلاً استوقفه في الطريق وسأله ألست أنت قائل بيت الشعر

«فإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانَهُ

لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ»

فأجاب أبو العلاء «نعم» فقال الطفل «إن الأوائل أتوا بثمانية وعشرين حرفاً، فهل تستطيع أن تضيف حرفاً؟»، وقال أبو العلاء إن هذا الطفل لن يُعمر، ويروى أن الطفل مات مبكراً.

وأورد هذه الأمثلة لأبين أن الأردن بحاجة ماسّة للعودة للاهتمام بالأطفال. ولقد تَعَوَّد أطفالنا في الماضي أن تكون أمهاتهم المعلم الأول لهم. أما الأب فقد تعود تعليم الطفل أخلاق العشيرة أو الديرة، ويعلمه الرماية وركوب الخيل، ويمرنه ليكون منتجاً قادراً يرث عن أهله صنعتهم وحرفتهم. أما الفتيات، فقد كن في ذلك الزمن يُربَّين على عزة النفس والاعتداد بها وبالأهل والعشيرة. والأم تقوم على تربية ابنتها في المدينة والقرية والمضارب لتكون زوجة صالحة، وأُمَّاً قوية حنونة، ومدبرة للتوفيق بين الموارد والمداخيل المحدودة والحاجات الكثيرة.

وحيث أن تعدد الزوجات كان في عهد الإمارة أمراً مألوفاً، ونكد الضراير ضريبة لا بد من دفعها، وتوزيع الاهتمام على النساء بعدالة من قبل الأزواج محاولة لا تتكلل بالنجاح مهما بذل من جهد، فقد انتقلت عدوى المنافسة بين الزوجات إلى ابنائهن وبناتهن. ولكن كان لكل رب أسرة طفل معين يتميز عن باقي أخوته وأشقائه وبنات أبيه.

ويتصف هؤلاء الأطفال عادة بالحركة والجرأة، وطول اللسان. وإذا أخطأ أمام أبيه أو ارتكب ذنباً فإن الأب يلحق به حتى لا يمسكه فيضطر لضربه أو معاقبته تحت أعين الأخوة الراصدة لردة فعل الأب والترقب للتشفي بهذا الأخ، ولكن الطفل يقوم بحركات بهلوانية مما يدفع أخوته وأخواته للضحك، والأب يلحق به ليمكنه من الهرب، ويُعلّق الأب، «واين رايح، مصيرك ترجع والله لأوريك نجوم الظهر».

هذا الطفل الشقي هو «يوسف» العائلة. ويعلم الأب في أعماقه أنه هو ابنه المميز، والذي سينقذ العائلة، ويكون عمودها، وهو الذي يكيد له الأخوة كيداً، ولكنه عندما يكبر يصبح المرجع والمستشار والسند لهم محققاً فراسة أبيه فيه. وفي الأسر الكبيرة متعددة الأبناء، قد يكون من بينهم من هو الأخ الآخر الذي أبقاه النبي يوسف إلى جانبه.

الملك عبدالله الأول المؤسس الفصيح قولاً والذكي تخطيطاً، كان له ولدان من زوجتين، هما الأمير طلال بن عبدالله والأمير نايف. وبعد استشهاده خارج المسجد الأقصى بعد أداء الصلاة كان مَعَهُ حفيده الحسين والذي رأى فيه ملامح الذكاء الحاد، والجرأة والشجاعة، واعتنى به وعلمه مما كان يعلم. ولما قرر الملك طلال أن يتنازل عن العرش بعد سنة حافلة بالعطاء، آلت الأمور إلى ابنه الأكبر الحسين. ولم يكن الانتقال سهلاً فالحسين لم يبلغ حينها سن السابعة عشرة من عمره، وكان ما يزال يدرس في ساندهيرست.

ولما صرتُ رئيساً للديوان الملكي الهاشمي، قررت أن أبحث عن أول خطاب ألقاه الحسين على الشعب الأردني. وأخيراً، وبعد بحث في الديوان بمساعدة أبي الحسن (يوسف حسن العيسوي) والمرحوم مدير مكتب رئيس الديوان غازي الحديد، استطعت أن أجد الشريط. وعملت نسخة منه، وحملتها معي في رحلتي الاسبوعية إلى «مايو كلينيك» بولاية مينيسوتا الأميركية حيث كان يرقد المغفور له بإذن الله على سرير الشفاء. وأسمعته الشريط (أو القرص). وشعرت أن الطفل الذي رافق جده الشهيد عند اغتياله في الأقصى، والشاب الذي ألقى أول خطاب له كولي عهد لأبيه، والحسين العظيم الراقد كالليث على فراشه قد اجتمعوا معاً في صورة واحدة.

حينها، وحينها فقط، أدركت تماماً مغزى ببيت الشعر الشهير الذي قاله الشاعر الانجليزي «وليام ووردزورث» في عام 1802 في قصيدة «قلبي يقفز للأعلى» أو «قوس قزح» والذي يقول «إن الطفل هو أبو الرجل»، كنت أنظر إلى جلالته وهو يستمع إلى الشريط وعيناه ساهمتان وأتساءل كيف استكانت نظراته السارحة، وكست وجهه تلك الصورة الشهيرة له وهو يحمل حقيبته المدرسية ذاهباً إلى الكلية العلمية الإسلامية/ قسم الابتدائي. من عَلَّم الرجل كل تلك الحنكة والصلابة والصبر على الشدائد والبصيرة في الأمور؟ «لقد تربى جندياً بأخلاقه وانضباطه وعزمه على يد جده، ومدبراً وفطناً من قبل والدته المرحومة الملكة زين الشرف، ومحباً عاشقاً لبلده وأهله كما كان الراحل والده، ومنفذاً كما كان خاله الشريف ناصر بن جميل.

ذلك الطفل العاشق للطيران، وسباق السيارات، وتحدي الصعاب، وراكب الأمواج متزلجاً تحول إلى جندي لا يهاب، ومليكاً عز نظيره وقد عرفته عن قرب لسنوات، فقد كان الطفل فيه لا يغادره أبداً.

وبالمقارنة، فقد أمضى الملك عبدالله الثاني المعزز السنوات الأولى من دراسته في الكلية العلمية الاسلامية في كل من الروضة والابتدائي. وقد كانت أمه الأميرة «منى الحسين»، صديقة للناس وتتمتع بالخلق الراقي والتسامح. وحيث أن عبدالله هو الابن البكر للراحل الحسين فقد ركز عليه والده ليتدرب مثله. فكانت العسكرية وأخلاقها وانضباطها وهدوء لهجتها الذي يَخْرقُ الصخر هي الرائد الأول له في سلوكه. فقد تعلم قيادة طائرات الهليوكوبتر، والقفز بالمظلات، ورياضات الماء النهرية، ودخل القوات الخاصة وصار قائداً لها.

ولعل أجمل صورة رأيتها للملك عبدالله الثاني، ونشرت أخيراً على صفحات الفيسبوك هي تلك التي يحمل فيها طفلاً في الثانية من عمره، والاثنان ينظران إلى بعضهما البعض ويضحكان ضحكة صافية من القلب. وهذه الصورة البديعة دفعتني للتساؤل: إن ما أراه أمامي صورة طبيعية لا تَكَلُّف فيها ولا ادعاء لابتسامة، بل ضحكة صافية كنبع ماء من قلب الصخر. وقلت في نفسي دَعْني أسْرح بالخيال لأيام مقبلات، عندما يكبر هذا الطفل الذي لا أعرف اسمه، والذي حظي بشرف القرب محمولاً من الملك: ماذا سيكون شعوره لما يتخرج من الجامعة أو يتزوج، وتبرز له أمه صورته وهو طفل يضحك مطمئناً، وادعاً، ألن تصبح هذه الصورة مصدر تحفيز له إلى الأفضل؟

والآن بدأت طلائع الطفل الذي كبر أمام أعيننا سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله. وقد بقي الطفل الذكي فيه ينمو معه، وها هو قد تخرج من ساندهرست، وأكمل دراسته الجامعية في هارفرد، والقى خطابات في مؤتمرات الشباب الدولية، وترأس اجتماعين في هذا الصدد في مكاتب الأمم المتحدة بنيويورك. وتابع سيرة أمراء آل هاشم الأشاوس في الزيارات الميدانية، وتشجيع الشباب على الابداع والابتكار، وهنالك كلية باسمه للدراسات الدولية بالجامعة الأردنية، ويتابع باهتمام جامعة الحسين التقنية الجديدة حتى تُخرِّج جيلاً من المتقنين والمنجزين.

وهكذا نرى أن آل هاشم ملوكاً وأمراء يحبون الأطفال، وهم بذلك يتآلفون مع الطفل الذكي الفطن الذي سيصبح أباهم عندما يكبرون. ويذكرني ذلك بالاقتباس للشاعر الأميركي ومنتج الأفلام الشعلة «جيمس بروتون»، والذي وصف نفسه قائلاً «يسعدني أن أبلغكم أن الطفل الذي بداخلي ما يزال يتمتع بعمر مديد لا ينتهي».

وقد استعرضت هذا الجانب لأقول إن بناء المجتمعات وضمان ديمومة التقدم والفكر الثاقب يبدأ من الطفولة. وقد قالت العرب أمثالاً في ذلك منها على سبيل التذكير «الدّيك الفصيح من البيضة يصيح»، وقالت العرب «إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، فهو علم محفور على الصخور ويدخل في تركيبة الانسان وكيميائيته وبيولوجيته ولا تمحى مع الأيام. وهي التي تتولى أسلوب تفكيره وسلوكه عندما يكبر.

كثيراً ما يجد الناس أنفسهم يحبون طبخة معينة، لأن لها في نفوسهم ذكريات لا تُمحى. كان جدي عبدالمحسن العناني خطاطاً بارعاً، وعلمني بجانب الخط التاريخ العثماني عن ظهر قلب لأنه خدم كاتب الفرقة التي انتمى إليها. وقد أمضى تسع سنوات (1910-1919) وهو في"السفر برلك» وقد أحببته كثيراً، وسعدت جداً كلما أتى لزيارتنا. وقد اعتادت أمي أن تعد له «المقلوبة باللحم والباذنجان»، ويأكل منها بشهية قائلاً لي «يا سيدي ما في أزكى من المقلوبة اللي بتعملها أمك». وكنت استلذ بها كثيراً وأنا آكلها معه، وهو يعلمني «من انتصر في معركة قوصوه؟ فأقول السلطان مراد الأول، فيسألني وهو يأكل «في أي سنة؟» فأقول له عام 1389، فيسألني «وماذا حصل للسلطان مراد؟» فقلت «قتله جندي صربي ادعى أنه ميت»، فيسألني «ومن أتى بعده؟»، فأقول «السلطان بايزيد الصاعقة».

والدتي عمرها الآن 95 سنه، ولم تعد تطبخ المقلوبة، ولكنني لم أعد استمتع بها كما كنت. فمقلوبة اليوم لا يأكل منها جدي ولا يختلط ضحكي معه بصياحي وأنا طفل صغير «أورخان، مراد الأول، بايزيد الأول، محمد الأول، مراد الثاني، محمد الفاتح.. الخ». ولكن المعلومات وذكرى المقلوبة بقيت في رأسي.

ونسمع هذه الأيام أن الآباء والأمهات في الدول الغنية يعتقدون أن الطفل قادر على التعلم والتفاعل مع المعلومات التي يقرأها له والداه حتى وهو لم يزل في رحم أمه.

وقد قام علماء التربية وعلم النفس باجراء دراسات حول ارتباط معدل ذكاء الاطفال وانجازهم لما يذهبون إلى المدارس بتعليمهم وهم في أرحام أمهاتهم فوجدوا أن للأطفال قدرة عالية جداً على الاستيعاب.

ومن هنا نستخلص أن الأردن بحاجة ماسة إلى اعداد جيل قادم من الأطفال الذين تُنمى عقولهم ومَلَكاتهم في سن مبكرة جداً. وهذا الاستثمار سيخلق لنا جيلاً من الشباب الراغب في العلم والمتعطش له والساعي نحو الابتكار والتطوير.

نحن في الأردن يجب أن نقول الحمدلله على ما نحن فيه بأن أطفال بني هاشم يكبرون ويتربون على أحسن ما يكون الخلق والصبر والتسامح والحزم والبصيرة، ويكبر هذا الطفل البديع ليصبح أبا الملك الذي يحكم في الأمور ويسيرها.
الرأي

مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/02 الساعة 23:49