مدار الساعة - من الأولويات والأساسيات أن تجد في كل بيت أكثر من ثلاثة أو أربعة أجهزة إلكترونية (حاسوب، هاتف…) متصلة بالإنترنت، تسمح لنا بالاشتغال أو التداول أو التصفح ومشاركة كل جديد على منصات التواصل الاجتماعي، ولهذا التطور الهائل حسنات لا تعد ولا تحصى، العالم قرية صغيرة، العولمة في أوجها، يوم على يوم يرسخ مفهوم العولمة الذي تنبأ بتأثيره وبروزه مفكرون وعلماء كُثر.
عالم المستقبليات المغربي رحمه الله (المهدي المنجرة) تطرّق للعولمة بكل تفاصيلها وعلاقتها بالمعرفة في المجتمع المعاصر، ومستقبلها وانعكاسها على العرب في كتابه "عولمة العولمة". أقتبس من هذا الكتاب ما يلي: "أعني بالأساس أن طيلة العشرة آلاف سنة الماضية أصبحت المعارف الإنسانية تتضاعف كل سبع سنوات بشبكة الإنترنت، محرك البحث (ياهو) يحتوي على ما يناهز مليار وثيقة، بوتيرة وثيقة كل ثانية… الكم إذن موجود وكذلك النوعية والسرعة، سرعة تداول المعلومات والمعارف".
إذن السرعة والكم وتنوع المصادر كل هؤلاء حاضرون
من جهة أخرى هناك جانب مظلم وعميق لهذه الثورة الافتراضية والتطور والتكنولوجيا، تسببت في الكثير من المشاكل والتحديات لأشخاص كانت تطلعاتهم من هذه التكنولوجيا عيش مرارة وقسوة التشهير، أو استعراض فيديوهاتهم الخاصة وانتهاك خصوصيتهم لتصبح رائجة للعلن.
العالم الافتراضي ليس عالماً منصفاً، بل خرّب حياة الملايين، وسبّب لهم عقداً وأمراضاً نفسية، وفي بعض الأحيان تكون الفضيحة غير متوقعة، وأحياناً أخرى يكون التشهير وانتهاك خصوصيات الناس عن قصد، بطريقة ممنهجة، من أجل الاشتغال على أجندة تخدم مصلحة ما.
نصادف يومياً ملايين الفيديوهات والمنشورات في عالم لا يتوقف، ويختلف المحتوى الذي يُقدم من دولة إلى أخرى، فكل مجتمع بما فيه ينضح. المقلق الذي استفحل في العالم العربي بصفة عامة هي قنوات (التفاهة) على منصة "يوتيوب"، تفاهات يمكن القول إنها "موضة جديدة"، تفاهة لا يُستفاد منها، تُنشر فقط لحصد المشاهدات، تفاهة مخيبة للآمال.
إن جيل العولمة والتطور يعول عليه في المستقبل القريب لتقلد المناصب الحساسة وإدارة الدول والحكومات، والمساهمة في تجديد الدماء السياسية وإسماع الصوت.
فمن العيب أن نشاهد فيديوهات ليست لديها إضافة نوعية، مثل فيديوهات "روتيني اليومي"، أو فيديوهات التحديات والحرب، عن الفتيات والقتال من أجلهن، أو المحتوى الذي يعرض الإيحاءات الجنسية أو الشذوذ.
حرب كلامية متواصلة، كثرة القيل والقال، "الحموضة" تنشر ليل نهار، والهدف منها حصد المشاهدات التي تساوي مداخيل شهرية -رغم انحطاط المحتوى- بدون تعب أو شقاء أو عمل، غير استعراض التفاهة والكلام الساقط، والخطير في هذا الأمر أن هناك جرائد إلكترونية تعمل تحت لواء الصحافة، تعطي اهتماماً متواصلاً لهذه التفاهة أينما وُجدت، تجدهم من الحاضرين لتغطيتها، منابر إعلامية دخيلة لا تحاول الرقي بالمحتوى، بل العكس، هدفها واضح وجلي للعموم، هدفها طمس الحقائق وإشاعة التفاهة والتطبيل لها، هدفها تدمير الشباب وقتل التفكير وروح الإبداع.
من المحال أن نصل إلى مجتمع واعٍ في المستوى المطلوب وهذه التفاهة تتداول من جهة والمجتمع يروجها من جهة أخرى، لأن المسؤولية مشتركة، ولا يمكن أن نكون منافقين بهجاء المنشور ورثاء الحال ونحن من المستهلكين، المسؤولية مشتركة، والقضية ليست سهلة، لأن انفلات المجتمع وغوصه في التفاهة يقلل من قيمته، ويضعه في أسفل الدرك، خاصة أننا في زمن الانفتاح التام وغير المشروط والحرية المطلقة.