مدار الساعة - في عام 1566 وبعد 47 عاماً من الحكم كأطول السلاطين العثمانيين بقاء على العرش، خرج السلطان سليمان القانوني على رأس أكبر جيش قاده نحو بلغراد للمرة الأخيرة. ورغم مرضه الشديد، فإنه أبى إلا أن يترأس الجيش باتجاه المجر. خاض هناك معركة حصار سيكتوار الشهيرة، فمات قبل الانتصار بيوم واحد، بعدما أباد جيشه الجنود المجريين عن بكرة أبيهم في انتصار "باهظ الثمن".
ولِفهم حيثيات المعركة، نعود قليلاً إلى السياق التاريخي والجغرافي لوصول السلطان سليمان القانوني إلى العمق المجري.
الكيانات السياسية المتنافسة حول السلطنة العثمانية
حول محيط البحر المتوسّط توزعت 3 كتل سياسية كبرى، الأولى هي الدولة العثمانية وعاصمتها إسطنبول، بعدما فتحها محمد الفاتح عام 1453. ثم تمدّدت الدولة في عهد حفيده سليم الأوّل، حين قضى على دولة المماليك بمصر والشام وبعض سواحل شمال إفريقيا وبلاد الحجاز.
على الجانب الآخر كانت الدولة الصفوية في إيران، والتي هزم سليم الأوّل أيضاً ملكها الشاه إسماعيل الصفوي.
وعلى الجانب الغربيّ، دار صراعٌ ضخم على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدّسة بين شارل الخامس ملك إسبانيا، ومنافسه فرانسوا الأوّل ملك فرنسا.
ولأن أوروبا الشرقية هي درع الدفاع الأولى ضد الهجمات القادمة من آسيا، كانت دول مثل المجر وصربيا ورومانيا، أكثر عرضةً للغزوات أو للصدامات بين مختلف الحضارات عبر التاريخ، وفي تلك الفترة لم يبقَ أمام الإمبراطورية العثمانية إلا المجر للتعمق في أوروبا.
سليمان القانوني يستكمل فتوحات أبيه
وبالفعل، في عام 1521، سيطر السلطان العثماني سليمان الأول، الملقب بـ"سليمان القانوني" وعند الأوروبيين بلقب "العظيم"، على بلغراد. كان عمره حينها 26 عاماً بعدما ورث الحكم عن أبيه سليم الأول ليستكمل فتوحات والده.
وبعدها بخمس سنوات، أي في عام 1526، هزم سليمان القانوني الملكَ لويس الثاني ملك المجر وقتله في معركة موهاكس، التي شكلت كارثة تاريخيّة لبلاد المجر وجيشها القويّ الممتدّ عبر 637 عاماً من الحروب والانتصارات.
أدى انتصار العثمانيين في تلك المعركة إلى تقسيم المناطق التي تعرف اليوم باسم المجر وكرواتيا بين إمبراطوريتي هابسبورغ والسلطنة العثمانية.
ولكن في عام 1529، آلت محاولة سليمان الرامية إلى فتح فيينا -درة العقد في أوروبا الوسطى- إلى الفشل، فدار قتال متقطع لكنه غير حاسم، بين الإمبراطوريات المتنازعة على مدى عقود.
حصار سيكتوار
ولكن في 1 مايو/أيار 1566، خرج سليمان من إسطنبول على رأس جيشٍ قوامه 150 ألف جندي، في حملةٍ حشد لها جل قواته؛ للسيطرة على فيينا عازماً على النصر.
وبعد وصوله إلى بلغراد في 27 يونيو/حزيران، علِم بوقوع غارة مدمرة على المعسكر العثماني في سيكلوس القريبة من سيكتوار، وهي قلعة في المجر تحرسها حامية تضم نحو 2300 جندي كرواتي وهنغاري، يقودهم الكونت نيكولا الرابع زرينسكي كرواتي المولد.
قرر سليمان القضاءَ على الخطر المتربص بجيشه في سيكتوار قبل استكمال زحفه إلى فيينا.
ولما كان سليمان يعاني داء النقرس وبلغ عمره 71 عاماً، أنشأ نقطة مراقبة على تل سيميلهوف المقابل للقلعة، وآثر تفويض القيادة الميدانية إلى وزيره الأعظم صقللي محمد باشا.
وفي 6 أغسطس/آب 1556 بدأت المعركة.
استفتح الجيش العثماني بهجوم عام، تصدى له المجريون بنجاح في البداية. فسيكتوار (التي تعني بالهنغارية "قلعة الجزيرة") كانت محاطة بالمياه من 3 جهات، ما حدَّ من تقدُّم الجيش العثماني.
اتسم الشهر التالي من الحصار بعدة هجمات أكثر تكلفة، وإطلاق مدفعي عثماني لا هوادة فيه، وهجمات مضادة، وجهود عثمانية متواصلة لتقويض الجدران بالمتفجرات وإشعال الحطب عند أركان الحصن.
وفي الوقت الذي كان فيه زرينسكي وقواته محاصرين في القلعة، حشد إمبراطور هابسبورغ ماكسميليان الثاني جيشاً قوامه 80 ألف رجل، لكنه لم يُقدم على أي خطورة لتخفيف الضغط عن سيكتوار المحاصرة؛ لانشغاله بجبهات أخرى.
استمر الحصار والدك العثماني وصولاً إلى 6 سبتمبر/أيلول، حين تُوفي سليمان في خيمته لأسباب طبيعية عن عمر يناهز 71 عاماً.
وحرصاً على معنويات الجيش في تلك اللحظات الحرجة، أبقى الصدر الأعظم صقللي محمد وفاةَ السلطان سراً لمدة 48 يوماً، رغم أنه تمكن من اقتحام القلعة في اليوم التالي للوفاة.
وفي صباح 7 سبتمبر/أيلول، أضرمت المدفعية العثمانية النيران في القلعة، وطلب زرينسكي من بقايا قواته البالغ عددها 600 مقاتل، الخروج إلى الميدان والقتال.
اندفعت القوات العثمانية عبر جسر ضيق باتجاه القلعة، لكن زرينسكي نصب فخاً من قذائف الشظايا الحديدية، فقتل نحو 600 من المقاتلين العثمانيين.
وفي أثناء القتال تلقى زرينسكي رصاصتين بصدره وسهماً في رأسه ليموت في أرض المعركة، حسب ما نشره موقع Historynet.
وعندما دخل العثمانيون القلعة أخيراً، أجهزوا على كل من فيها من البقية باستثناء قلة.
خسائر بشرية ضخمة وانتصار باهظ الثمن
تشير بعض التقديرات إلى أن عدد قتلى العثمانيين تجاوز 20 ألفاً، لكن كارثة أشد كانت بانتظار القوات العثمانية، إذ ترك زرينسكي فخاً من فتيل متصل بمخزنٍ للبارود، أدَّى انفجاره إلى مقتل 3 آلاف جندي محارب بعدما دخلوا القلعة.
بعد هذا الانتصار باهظ الثمن، ووفاة السلطان نفسه، سيتأجل الزحف العثماني نحو فيينا لمدة 120 سنة أخرى.
وبعد ما يقرب من عامين من الانتصار في معركة حصار سيكتوار، تم توقيع معاهدة أدريانوبل، التي أُبرمت في مدينة أدرنة العثمانية، في 17 فبراير/شباط 1568.
قضت المعاهدة بإنهاء الحرب بين مملكة هابسبورغ والإمبراطورية العثمانية، ووافق ماكسيميليان على دفع جزية سنوية قدرها 30 ألف دوكات، وتوسيع السلطة العثمانية سيطرتها على أقاليم ترانسيلفانيا ومولدافيا ووالاشيا.
الخصمان القائدان
وفي عام 1994، أنشأ المسؤولون حديقة "الصداقة الهنغارية التركية" التي تبلغ مساحتها فداناً واحداً وتقع بالقرب من بلدة سيرتو المجرية، وتحتوي الحديقة على نصب تذكاري ممول من تركيا، بُني على الطراز العثماني ويضم تمثالاً نصفياً من البرونز للسلطان سليمان، نحته الفنان التركي متين يوردانور.
لكن عندما اشتد اعتراض المجريين على التمثال، كلف المسؤولون يوردانور بإضافة تمثال نصفي لزرينسكي. وفي المنحوتة، يظهر القائدان الخصمان جنباً إلى جنب.
استعادة أحشاء سليمان القانوني
ووفقاً لكتابات المؤرخ والمستكشف العثماني أوليا جلبي، فقد أزيل قلب السلطان سليمان وكبده وأمعاؤه، ودفنت في خيمته بجوار حصن سيكتوار في المجر، بينما عاد جسده مفرغاً من أحشائه إلى إسطنبول، حيث دُفن في مسجد السليمانية الشهير المطل على مضيق البوسفور بإسطنبول.
وفي عام 2014، موّلت الحكومتان التركية والمجرية مشروع البحث عنها على مدى عامين. وفي عام 2016، أعلنت تركيا اكتشاف مكان دفن أحشاء وأعضاء السلطان، في قمة مزرعة للكرم بالقرب من قرية توبريكبوستا، حيث وجدوا بلاطاً عثمانياً يشير إلى القبر بعدما تحوَّل إلى لغز لأكثر من 4 قرون.