مدار الساعة - انتشرت مؤخراً صورة لمقام العز بن عبدالسلام والملقّب بسلطان العلماء، وهو شبه متهدّم، باعتبارها صورة حديثة لما تمّ هدمه من المقابر الأثرية لصالح محور الفردوس الذي تقوم الحكومة المصرية ببنائه حالياً. لكنّ هذه الصورة قديمة، ولا يبدو أنّ قبر العزّ بن عبدالسلام قد هُدم بسبب محور الفردوس وإنّما تهدّمت أجزاء منه بسبب قلة الاهتمام بالأثر.
وبعيداً عن الجدل الدائر حول محور الفردوس، فما هي قصّة هذا الرجل الفقير البسيط الذي ذاع صيته في العالم الإسلامي وكانت كلمته تقف أمام كلمة السلطان نفسه، وكان أحد الشخصيات الرئيسية في مقاومة الصليبيين والمغول على حد سواء؟
الطفل الفقير يصبح سلطان العلماء
وُلد عبدالعزيز، أو العز بن عبدالسلام عام 1181 في دمشق، في لحظةٍ تاريخية كان العالم الإسلامي فيها فريسة للصليبيين من ناحية الغرب، بينما بدأ المغول انطلاقهم إلى العالم الإسلامي من ناحية الشرق.
وُلد عبدالعزيز في هذا العالم الذي يموج بالحروب والغزوات للعالم الإسلامي. كان والده فقيراً، فصحب أباه وهو صغير حمّالاً ينقل البضائع والأحمال الثقيلة في أسواق دمشق، كما عمل في تنظيف الأسواق، وكان يتمنّى لو يدرس في حلقات العلم بالجامع الكبير في دمشق.
لكنّ هذا الحلم لم يتحقّق إلا بعد صبرٍ طويل، فتذكر بعض كتب التاريخ أنّ بعض المشايخ قد طرده من مجلسه لأنّ ملابسه لا تليق بطالب علم. لكنّ هذا الطرد، والظروف المادية الصعبة لم تجعل العزّ يتردّد في حلمه أو يتراجع عنه.
عمل العز في المسجد الأموي الكبير في أعمال النظافة وغيرها، وسُمح له بالنوم في أركان المسجد، فقد أصبح الفتى يتيماً الآن، ولكنّ القدر ابتسم له حين تعرّف على الشيخ الكبير فخر الدين بن عساكر، الذي وعده بأن يدخله حلقات العلم في الجامع الأموي الكبير بعدما تكفّل بسعر ملابسه وحاجياته التي يحتاجها للدراسة.
العز بن عبدالسلام.. معارضة ملك دمشق بسبب الصليبيين
استطاع الشيخ أن يشقّ طريقه في حلقات العلم، ليصبح شيخاً للشافعيّة في زمانه، وقاضياً للقضاة في دمشق، وهو منصب عالٍ يشبه بشكلٍ ما منصب رئيس المحكمة الدستورية في العصر الحديث، وهكذا أصبح أيضاً خطيباً لأهمّ جامع في دمشق، الجامع الأموي، الذي كان منذ سنين يعمل فيه منظفاً له وحامياً لأحذية المصلين.
سلطان العلماء
وبعد سنواتٍ قليلة من تقلده منصب القضاء في دمشق حصل نزاعٌ بين الصالح إسماعيل ملك دمشق وابن أخيه الصالح أيوب سلطان مصر والشام. لجأ الصالح إسماعيل إلى الصليبيين وتحالف معهم، وأعطاهم بعض الحصون والقلاع في الشام، وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح وغيره.
وقف العزّ بن عبدالسلام في الجامع الأموي يخطب في الناس بحرمة البيع والشراء مع الصليبيين، بل وأحلّ دم البائع والمشتري لهم وهاجم الصالح إسماعيل ولم يدعُ له في آخر الخطبة. وبناءً على موقفه هذا أمر الصالح إسماعيل بعزله عن منصبه في الخطابة والإفتاء، واعتقله، ولكنّه رضخ في النهاية لثورة الناس عليه وأخرجه من السجن، لكن مجرداً من كلّ مناصبه.
من دمشق إلى القاهرة.. والمذهب واحد: الشيخ يقف في وجه السلطان
لملم الشيخ متاعه البسيط وهاجر من دمشق إلى القاهرة، تسبقهُ سمعته. واستقبله السلطان الصالح أيوب بحفاوةٍ بالغة، وعيّنه قاضياً للقضاة بمصر كما كان قبل أن ينقلب عليه الصالح إسماعيل في دمشق. لكنّه هذه المرة قاضي قضاة عاصمة سلطنة الأيوبيين.
وكانت للشيخ مواقف معروفة مع السلطان الصالح أيوب، تذكرها لنا كتب التاريخ. فأوّل هذه المواقف يذكرها لنا السبكي في كتابه "طبقات الشافعية" عندما ذهب الشيخ مرةً إلى السلطان في العيد، فشاهد عساكره مصطفين بين يديه والسلطان في أبّهةٍ وكبرياء وزينة، على عادة السلاطين.
وعندما بدأ الأمراء والوزراء يقبلون الأرض بين يدي السلطان، التفت إليه الشيخ وناداه باسمه: يا أيّوب! ما حجتك عند الله إذ قال لك ألم أبوِّئ لك مُلك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال له السلطان: هل يجري ذلك في مصر؟ فقال له نعم، في الحانة الفلانية والحانة الفلانية. فأمر بإبطالها سريعاً. لكنّ الشيخ حين عاد وشاعت القصة قال لأحد تلاميذه إنّما أردتُ أن أكسر كبرياء السلطان كي لا تخدعه نفسه.
هذه القصة ليست غريبة على العز بن عبدالسلام، الذي لقبه المشايخ بسلطان العلماء، لكنّ القصص الأجمل حين أبطل للمماليك كلّ معاملاتهم الشرعية من بيعٍ أو شراءٍ أو زواجٍ أو غيره، باعتبارهٍ قاضياً للقضاة.
كان السلطان الصالح أيوب قد جلب الكثير من المماليك بأموال الدولة وجعلهم حراسه وجنوده، ومع الوقت صاروا نواباً له ووزراء، يتحكمون في الدولة. أصدر الشيخ فتوى شرعيّة بأنّ المماليك عبيدٌ لا يجوز لهم البيع والشراء وغيرهما من المعاملات التي يقوم بها الأحرار من الناس.
استشاط المماليك غضباً، وهددوه، فلم ينصَع للتهديد. تدخَّل السلطان وطلب منه العودة في فتواه، فرفض، بل إنّه لملم أغراضه ومقتنياته وسافر، وفي الطريق تبعه الناس، من الفقراء والأغنياء، التجار والنحاسين والعلماء وغيرهم. ولما علم السلطان ركب بنفسه ولحقه واسترضاه.
فرجع الشيخ على أن ينادي على الأمراء واحداً واحداً في السوق، ليبيعهم عبيداً، على أن تُصرف الأموال التي بِيعوا بها على مصلحة الفقراء والمحتاجين. وبدأ الشيخ ينادي على المماليك، ليشتريهم الناس ويبالغ في أسعارهم حتى يشتريهم السلطان ويعتقهم ليظلوا في مناصبهم باعتبارهم أحراراً وليسوا عبيداً.
العزّ بن عبدالسلام.. نفس الموقف يساعد في مقاومة المغول
للشيخ كتبٌ عديدة، لكنّ مواقفه البطولية غطّت على عناوين كتبه، وكلّ ما ذكرناه سابقاً يعتبر ممهداً للقصة التي سنذكرها الآن.
العز بن عبدالسلام
عندما زحف المغول على بلاد الشام، لم يتبقَّ أمامهم من الممالك الإسلامية سوى مصر، وعندما بدأ سيف الدين قطز تجهيزاته لمجابهة المغول أراد فرض ضرائب على الناس، فرفض الشيخ ذلك، وقال للسلطان: عليك أن تضع أموالك وأموال رجال الدولة وأموال نسائكم، وإذا لم يكفِ ذلك لتكلفة تجهيز الجيش حينها فقط يمكن لك أن تأخذ من التجار وتفرض الضرائب. وقد حدث ذلك بالفعل.
وبعدما استطاع سيف الدين قطز هزيمة المغول في معركة عين جالوت، وفي طريق عودته للقاهرة قتله رفيقه الظاهر بيبرس، وتقلد عرش مصر، لكن لم تكن له قصص مثل تلك القصص التي مرّت من قبله على قطز والصالح أيوب والصالح إسماعيل مع الشيخ العز بن عبدالسلام، لكنّ بعض كتب التاريخ تذكر موقفاً واحداً:
حين توفي الشيخ بعد سنةٍ ونصف (عام 1262) من تقلُّد بيبرس السلطنة، شاهد جنازته من أعلى القلعة، فوجد خلقاً كثيراً يشيعونه، فقال لبعض خواصّه: اليوم استقرّ ملكي، فلو قال هذا الرجل للناس أن يخرجوا عليَّ لانتزع منِّي المُلك.