مدار الساعة - يركب المغربي مولود باشيخ سيارة رباعية الدفع، ويبدأ رحلته المعتادة في صحراء السمارة (جنوبي المغرب) منقباً عن كنوز قادمة من الفضاء، يداه على المقود وعيناه الثاقبتان والخبيرتان تبحثان عن أثر لقطع نيزكية.
تعد النيازك في المغرب مصدر عيش العديد من سكان جنوب المغرب، يجوبون الصحراء مشياً على الأقدام أو على متن الدراجات أو السيارات بحثاً عن بقايا حجر نيزكي نادر متوارٍ وسط الرمال الشاسعة قد يقودهم بيعه لتجاوز خط الفقر.
بدأت قصة مولود مع النيازك في المغرب قبل عقود، حينها كانت الصحراء محج الأجانب الباحثين عن هبات السماء، كانوا يحتاجون في رحلة بحثهم إلى مرشد يعرف تضاريس المنطقة ويملك سيارة رباعية الدفع.
يقول مولود لـ"عربي بوست" إنه تعلم من مرافقة الأجانب الكثير عن أحجار السماء، واكتسب معرفة جعلته يميز بين أنواع النيازك النيازك في المغرب ومصدرها وقيمتها العلمية.
النيازك في المغرب.. هدايا من السماء
بعد سنوات من التجربة والخبرة، أصبح مولود بائعاً معتمداً للنيازك، يقصده الباحثون والعلماء والوسطاء للاستفسار عن أحد الأحجار النيزكية النادرة، ويدق بابه صيادو النيازك من السكان المحليين الراغبين في تقييم صيدهم من الأحجار قبل بيعها للسماسرة.
وبفضل تجارة النيازك، استطاع هذا الشاب الصحراوي شراء سيارة خاصة ومنزل وتحسين مستواه المعيشي، كما اقتنى بعض الآلات والأدوات التي تسهل عمله في التنقيب وتروي فضوله العلمي المتزايد مثل آلة الكشف عن المعادن وميكروسكوب وتلسكوب وغيرها.
وبلغ ثمن أغلى حجر نيزكي باعه مولود 15 ألف درهم (حوالي 1700 دولار) للغرام حسب قوله، ويتعلق الأمر بحجر نيزكي نادر أصله من المريخ واسمه "بلاك بيوتي" عثر عليه في صحراء بئر أنزران.
نيزك تيسينت ومتحف النيازك
في عام 2011، سقط نيزك في قرية تيسينت نواحي مدينة طاطا جنوب المغرب، شاع الخبر وتدفق صيادو النيازك من كل حدب وصوب على المنطقة بحثاً عن قطع من هذا الحجر النيزكي، وكان عبدالرحيم أبهي، الأستاذ الجامعي والخبير المغربي بالنيازك أول باحث يحل في صحراء طاطا.
يعود أبهي بذاكرته سنوات إلى الوراء ويحكي لـ"عربي بوست" أنه وجد السكان المحليين يبيعون الأحجار التي عثروا عليها بأثمنة تتراوح بين 20 و30 دولاراً، ليتبين له وهو الخبير في البراكين الحديثة أن الأمر يتعلق بحجر بركاني مصدره كوكب المريخ.
بعدما أدرك صيادو النيازك قيمة هذا الحجر النيزكي، ارتفع الثمن وتنافس السماسرة للحصول على أجزاء منه، بيعت كل القطع التي تم العثور عليها، ولم يتبقَّ في المغرب إلا قطعة صغيرة.
يقول الخبير في النيازك في المغرب إنه شعر بالأسف، لأن بقايا نيزك تيسينت القادم من المريخ توجد في كبريات المتاحف ومراكز البحث في العالم (ومنها وكالة ناسا)، ولا يوجد في المغرب البلد الذي سقط فيه سوى قطعة صغيرة. فكانت فكرة إنشاء متحف للنيازك.
حمل أبهي فكرة مشروعه وطاف بها على الجهات المسؤولة، فجاءه الرد من رئيس جامعة ابن زهر بأكادير الذي خصص فضاء لهذا المتحف ليفتح رسمياً أبوابه عام 2016.
ويُعد المتحف الجامعي للنيازك بأكادير أول متحف من نوعه في إفريقيا والعالم العربي، ويعمل منذ تأسيسه- حسب أبهي- على نشر الثقافة العلمية وتشجيع البحث العلمي في مجال النيازك، والحفاظ على هذه الثروة الجيولوجية في المغرب للأجيال القادمة، إلى جانب تقديم الدعم لصائدي النيازك في المغرب من السكان المحليين من خلال تكوينهم وتطوير معلوماتهم وخبرتهم في هذا المجال.
المتحف مقصد صيادي النيازك
أصبح المتحف منذ تأسيسه وجهة موثوقة لصائدي النيازك في المغرب، يقصدونه لتحليل عينات الأحجار النيزكية التي يعثرون عليها في الصحراء لمعرفة مصدرها وبالتالي قيمتها.
يقول أبهي: "كنت في الماضي غاضباً لأن هذه الثروة الجيولوجية التي يتوفر عليها المغرب يكون مصيرها الخارج، لكني مع الوقت صرت أتفهم صائدي النيازك، فالأحجار النيزكية بالنسبة لهم هبة من السماء تساعدهم على تحسين أوضاعهم الاجتماعية الصعبة".
ويلجأ مولود باشيخ أيضاً لمختبرات جامعية وطنية لتحليل النيازك التي يعثر عليها، مثل مختبر جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، ومختبر جامعة ابن زهر بأكادير.
ومقابل هذا التعاون، يهدي مولود هذه المختبرات بعض القطع النيزكية خدمة للبحث العلمي، يقول إن متحف النيازك في المغرب في بأكادير يضم عدداً من الأحجار المسجلة باسمه مع قصة العثور عليها، كما أجريت على بعضها أبحاث نشرت نتائجها في مجلات علمية معروفة.
الرحَّل صاروا خبراء
قبل عقود كان السكان المحليون لا يستطيعون التمييز بين أنواع النيازك في المغرب، فهي بالنسبة لهم مجرد أحجار سقطت من السماء يقبلون أي ثمن يدفع لهم مقابلها.
يقول أبهي إنهم كانوا يضعون الأحجار النيزكية التي يجدونها في الصحراء في كيس ويبيعونها دون فرز وبأثمان بخسة، لكن يبدو أن الوضع تغير بفضل احتكاك الرحَّل والسكان المحليين بالباحثين والعلماء.
نظم هذا الخبير المغربي في النيازك عدة زيارات للرحل وسط الصحراء، نقل إليهم معلومات عن النيازك في المغرب وعلَّمهم الفرق بينها وطريقة التعامل معها عند العثور عليها حتى صاروا خبراء في المجال.
يشير الخبير المغربي في حديثه لـ"عربي بوست" إلى أن الأحجار النيزكية القادمة من القمر والمريخ ثمنها مرتفع جداً، فهي تساعد الباحثين على فهم جيولوجيا الكواكب والنجوم والكون؛ لذلك يؤكد أهمية تكوين الرحل وتوظيفهم كراصدين للنيازك.
ويضيف المتحدث: "عندما تسأل عالماً عن القيمة المادية لحجر نيزكي قادم من القمر أو المريخ، فسيخبرك أنها تعادل قيمة رحلة مركبة فضائية إلى المريخ أو القمر لإحضار تلك الأحجار".
ويكمل حديثه قائلاً: "منذ وطئ الإنسان أرض القمر عبر رحلات مركبات أبولو، ورحلات المركبات الفضائية الروسية، تمكنا من إحضار 370 كلغ من الأحجار، لذلك فقيمة الأحجار النيزكية النادرة التي يعثر عليها صيادو النيازك في الصحراء كبيرة جداً ومهمة بالنسبة للعلماء".
يمكنك ملامسة المريخ
تحولت علاقة مولود باشيخ بالنيازك من تجارة إلى شغف ورغبة في ترك أثر في هذا المجال، ورغم المخاطر التي تحيط بمغامراته في البحث عن الأحجار النيزكية وسط الصحراء من مصادفة حقل ألغام، أو ظروف جوية صعبة، أو زواحف سامة، إلا أنه مستمر في اتباع شغفه.
ويحتفظ باشيخ في بيته بحوالي مئة حجر نيزكي، ستين منها تتوفر على بطاقة تقنية، تتضمن معلومات عن النيزك ومكان العثور عليه وتحاليل مخبرية لمكوناته.
ويسعى مولود جاهداً لأن يهدي هذه الثروة الشخصية للمجتمع والمهتمين بالنيازك، لذلك راسل منذ مدة وزارة الطاقة والمعادن، واقترح على المسؤولين فكرة إنشاء متحف للنيازك في مدينة السمارة يُساهم في تنمية المنطقة اقتصادياً وسياحياً وثقافياً.
ودفعه هذا الشغف لتأسيس جمعية هدايا السماء للشهب السماوية، وهي جمعية تهدف إلى منح الأطفال والشباب فرصة للتعرف على خبايا الكون وتحفيز عقولهم وفضولهم العلمي للتأمل في أسرار الفضاء.
"يمكنك ملامسة المريخ"، هي دعوة مفتوحة لكل محبي النيازك في المغرب والكواكب للتعرف عن قرب على هذا العالم من خلال ركن خاص داخل الجمعية، يضع فيها مولود بعض الأحجار النيزكية القادمة من المريخ والقمر وبعض الكويكبات الصغيرة.
بالنسبة لمولود، فالسماء هي مصدر خير للسكان نهاراً وليلاً "ففي النهار يبحثون عن النيازك المنتشرة وسط الصحراء، وفي الليل ينظمون رحلات للسياح لمشاهدة السماء الصافية والاستمتاع بمنظر نجومها عبر التلسكوب"، وفق تعبيره.