مدار الساعة - ثمة معادلة معرفية غريبة بدأت تتحقق معالمها عربيا، إذ إن أكثر الشعوب توغلا في ذاكرتها أقل عناية وتوثيقا وأرشفة لتاريخها وتراثها.
فالتاريخ الثقافي العربي يحتاج إلى جهود كبيرة لتوثيقه، وجعله يدخل ضمن دائرة النقاش الأدبي الأكاديمي، لا كمعرفة أبدية متوارثة، وإنما بوصفه نسقا فكريا ثقافيا عربيا، يقوم على تحقيقه ودراسته وتشريحه واستلهامه داخل متون نقدية وشعرية وروائية وقصصية عربية، مما يجعل القديم موجودا في حياتنا المعاصرة، فهو يحضر دوما في واقع الحياة الأدبية العربية، لكننا لا ننتبه إليه لكونه يتخذ لبوسا ثقافيا وأدبيا غير ذاك الذي نعرف.
لماذا تتعثر ترجمة الأدب العربي إلى اللغات العالمية؟
إن السحر الذي يمارسه الأدب العربي القديم على ثقافات العالم لا تكاد معالمه وصوره تنجلي من الكتابة المعاصرة فكريا وأدبيا، بحيث يعثر القارئ على الكثير من المراجع التراثية والمتون النظرية داخل أعمال أدبية عربية جديدة، إما من ناحية استلهام شخصيات تاريخية (التوحيدي والجاحظ وابن رشد والغزالي) وإعادة تخييل سيرها داخل قالب روائي كنوع من الإسقاط الفني على الحاضر العربي، أو من جهة الدراسة النقدية التقريرية التي تعمل على إعادة التفكير في مشاريع فكرية وسيطية (نسبة إلى العصر الوسيط) ومقارنتها بما يحصل اليوم في المنطقة العربية برؤى حديثة وأدوات منهجية ومناهج تحليلية أكثر معاصرة.
عن التأثير الذي يمارسه الأدب العربي القديم على خصوصيات ومكونات الأدب المعاصر، "الجزيرة نت" تعيد الضغط على الجرح أكثر لمحاولة رصد حدة هذا التأثير الأدبي، وذلك بمعية العديد من الكتاب والروائيين العرب.
حصيلة محدودة مع الموروث
بداية يعتبر الروائي السوري خليل صويلح أنه "رغم اشتباك بعض الروايات العربية مع النصوص التراثية العربية، فإن الحصيلة محدودة بالمقارنة مع ثراء هذا الموروث وأهميته في إحداث هجنة سردية تضع السرد الجديد في مقام آخر لجهة اللغة والتخييل في آن واحد".
لذلك فهو يعتقد أنه على الأرجح أن: معظم روائيي اليوم لم يطلعوا على مثل هذه الكنوز، وحتى حين التفتوا إلى بعض هذه النصوص مثل "ألف ليلة وليلة" فذلك بتأثير المدونات الأوروبية. الشغف الذي نالته رواية "الخميائي" لباولو كويلو مثلا، لم يقابله نبش في معرفة مرجعيات هذه الرواية المنتحلة من الحكاية 351 من حكايات "ألف ليلة وليلة".
ويذهب صاحب "نزهة الغراب" بعيدا صوب مصر، بحيث يعتبر أن "الكاتب جمال الغيطاني يلفت في روايته "الزيني بركات" التي استلها من مناخات العصر المملوكي إلى أهمية إسقاطها على اللحظة الراهنة فيما يخص زمن البصاصين والدولة البوليسية".
وبالموازاة مع ذلك يستحضر خليل صويلح على الدوام عبد الفتاح كيليطو، الذي أشار كم من مرة "إلى الإشعاع السردي الذي تختزنه نصوص ابن رشد والجاحظ ومقامات بديع الزمان الهمذاني، لكن هذه الجرعات المشبعة نقديا لم تتسرب إلى الأدب العربي الجديد بما تستحقه من اهتمام بسبب جهل عمومي بحيويتها في إغناء السرد المعاصر، وذلك نتيجة الانخراط بالتقنيات الجاهزة للرواية الأوروبية وتقليدها".
من الأدبي إلى الفكري
والحقيقة أن ما ذهب إليه صويلح بخصوص غياب هذا التأثير والتأثر داخل كتابات أدبية معاصرة يبقى عين العقل، ومرد ذلك إلى الغياب المهول للأدب القديم في الحياة الأدبية المعاصرة. فالعرب عموما يهتمون بآداب أميركا اللاتينية والأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني، لكنهم ينسون الآداب العربية والفارسية. إذ على الرغم من سيطرة الأدب العربي القديم على المناهج التعليمية داخل الجامعات العربية، فإنه يظل مع ذلك حبيس أسوار الجامعات.
على هذا الأساس، يشير خليل صويلح من جهة أخرى إلى أن الروائي الفرنسي جيلبير سينويه "اكتشف حقلا بكرا في تشييد رواياته التاريخية باقتباس سير تاريخية لشخصيات من التراث العربي مثل ابن سينا (ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان) وابن رشد (كاتب الشيطان) و(اللوح الأزرق) عن سقوط الأندلس".
والأمر نفسه اشتغل عليه صويلح: ففي روايته الأولى "وراق الحب" عمل على "مقتبسات من نصوص الحب في التراث العربي لترميم صورة الحب في مرآة اليوم، فكان كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي دليلا إرشاديا في درجات الحب، وسيحضر أبو حيان التوحيدي لجهة جلاء اللغة وبريقها، وابن داود في كتاب "الزهرة" بخصوص الحب الشهواني.
أما في روايته "عزلة الحلزون" فيقول عنها: سأتكئ على كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميري في اختيار أسماء سلالة الراوي، إذ يشتمل الكتاب على طبائع ألف حيوان وطير، كما سأقتفي أثر الجاحظ في شوارع دمشق، إذ اكتشفت أنه زار هذه المدينة يوما ما، في قافلة آتية من بغداد، وسأقتبس عبارات من أقواله، وسوف أصحح طريقة موته، إذ درجت المدونات الشائعة على أنه مات تحت أكوام كتبه في سوق الوراقين في بغداد، في حين تؤكد وثائق أخرى أنه مات في الفالج عن مئة سنة في البصرة.
كان ذلك على مستوى الأدبي، أما من الجانب الفكري فيرى الروائي أن "ابن رشد سيحضر باسمه العربي واللاتيني "أفيروس"، وكيف أن الغرب اكتشفه، في حين نفاه أحد خلفاء الأندلس". لذلك لم يتردد صويلح في روايته "اختبار الندم" على اجتراح صورة روائية مذهلة من خلال "مقابلة ابن خلدون في رواق مقهى الروضة الدمشقي، وكيف اندلق فنجان القهوة فوق أوراق مقدمته المشهورة".
بين العربي والعالمي
أما الروائي السوداني أمير تاج السر فيستهل حديثه للجزيرة نت بالتأكيد على عملية التأثير التي مارسها الأدب القديم لسنوات طويلة على الأدب المعاصر. فهو من منطلقه روائيا يحدد أن صيغة التأثير لم تتوقف عند العربي، بل امتدت إلى العالمي، سواء على مستوى "التقنية الكتابية أو طريقة التخييل أو استخراج شخصيات معينة من الأدب القديم، وتوظيفها في نص حداثي".
ويظن الروائي أمير تاج السر أن: كتاب مثل "ألف ليلة وليلة" مرجع للأدب الواقعي السحري في طريقة الكتابة لكثير من النصوص الجديدة، وثانيا أستوحي منه، وأعتقد ماركيز نفسه استوحى منه، كما أن تقنية الكتابة في ألف ليلة وليلة تم توظيفها في روايات مثل "موسم الهجرة إلى الشمال".
و"غير ألف ليلة وليلة، توجد كتب تراثية أخرى مثل كتاب الأغاني وطوق الحمامة، فيها نصوص عن المدن القديمة، والشخصيات التي أثرت في زمان ما في عهود مثل عهد بني أمية والعهد العباسي وحتى الجاهلية، تم توليفها في نصوص حداثية، وشخصيات مثل أشعب وغيره".
ويعتبر الروائي أن "السرد القديم عندنا كان متقدما، أي فيه الأدوات نفسها المستخدمة اليوم من تشويق وإثارة ورسم للشخوص، وفي الحكايات التي نقرؤها مثلا عن الحجاج بن يوسف تحس أنك ترى الشخصية أمامك".
ويختم صاحب "قلم زينب" حديثه قائلا "عموما الأدب لغة متصلة تتطور لكن لا تنقطع عما كتب سابقا، وحتى الأدب الذي ننتجه اليوم سيأتي من يستوحي منه بوصفه تراثا، لذلك يجب احترام الآداب في أي عصر والنظر إليها كأعمال فنية موحية".
المصدر : الجزيرة