مدار الساعة - أيقنت الدكتورة جميلة اشتيوي أنْ ليس بالإمكان تحقيق أهداف الوصول إلى مناصب متقدمـة إلا بالحصول على الشهادة الأكاديمية، لذا، التحقت بمقاعد الدراسة في عمر الثلاثينات للحصول على شهادة الثانوية العامة بعد انقطاع عن الدراسة دام 8 سنوات، ثم درست البكالوريوس لتنتقل بعدها للدراسات العليا. وما بين الزراعة ومقاعد الدراسة وتربية الأولاد، استطاعت اشتيوي أن تصبح أول مديرة لمتحف "أخفض بقعة على الأرض" في منطقة الأغوار الجنوبية الأردنية منذ عام 2012.
بالعودة بالزمن، فقد درست الدكتورة اشتيوي والتي تبلغ من العمر خمسون عاماً المرحلة الأساسية في "البقعة"، ثم انتقلت مع أسرتها للعيش في الأغوار لإكمال دراستها الإعدادية. وعلى الرغم من أنها كانت تساعد والدها –رحمه الله- في أعمال الزراعة إلا أنها كانت متفوقة في الدراسة، لكن الحظ لم يحالفها في اجتياز مرحلة الثانوية العامة .
وتقول اشتيوي لشبكة نساء النهضة: "تزوجت من رجل أحببته، كان وما زال الداعم لي في كل مرحلة من مراحل حياتي. عشنا مع عائلة زوجي وكنا 24 شخصاً في المنزل، وعملنا معاً أنا وزوجي في الزراعة فاستأجرنا بستاناً وزرعناه، واستطعنا أن نوفر دخلاً كريماً لنا، ثم عمل زوجي سائقاً لشاحنة لنقل الخضروات والفواكه من الأغوار إلى السوق المركزي في عمان".
وتكمل اشتيوي حديثها قائلة "تلقيت عرضاً من دائرة الآثار العامة للعمل كطابعة على آلة طباعة يدوية في مكتب الآثار آنذاك، مقابل 60 ديناراً شهرياً، فعملت في هذه الوظيفة لمدة 7 سنوات بذات الراتب الشهري، كما لم أتخلّ أبداً عن عملي في الزراعة التي أعشقها، فكنت أعاود العمل في الأرض بعد انتهاء دوامي المكتبي".
بالنسبة لاشتيوي، كانت ملاحظة آلية عمل منقب الآثار أثناء الحفر للبحث والتنقيب، وأخذ الملاحظات واكتشافها، من الأمور التي أثارت دهشتها ودفعتها للتساؤل عن إمكانية ترقيها في عملها. لذا، اتخذت قراراً بمخاطبة مدير دائرة الآثار آنذاك الدكتور فواز الخريشة -رحمه الله- بهذا الخصوص والذي أثار رده بخصوص كونها لم تستكمل تعليمها حماسها لذلك.
وبمجرد أن انتهى لقاؤها بمدير الدائرة، انطلقت اشتيوي عائدة من عمان إلى مكان سكنها في الأغوار الجنوبية وكلها تصميم على الحصول على الشهادة العليا.
اشترت كتب الثانوية العامة قبل وصولها إلى البيت، ففوجئ زوجها وسألها إن كان بمقدورها إكمال دراستها بنجاح بعد انقطاع 8 سنوات، فكان جوابها بنعم إذ ستكون الشهادات العليا طريق تحقيق أحلام الزوجين وامتلاك بيتهما الخاص مستقبلاً.
تتابع اشتيوي "قررت أن أنجح وهكذا كان، فبعد إعادة الثانوية العامة لثلاث سنوات متتالية لم يحالفني الحظ خلالها، كان ترتيبي الأول على محافظة الكرك في التعليم الخاص، ومن ثم التحقت بجامعة مؤتة، وحصلت على البكالوريوس خلال ثلاث سنوات، تلقيت خلالها الدعم والثناء على اجتهادي من الأساتذة والمشرفين". وتضيف "كنت أسعد بعملي في المزرعة وفي مكتب الآثار وفي تربية أبنائي الأربعة وهم الذين كانوا يتلقون الرعاية من أهل زوجي أثناء غيابي، وكنت أبذل مجهوداً مضاعفاً في عملي في المزرعة، لأحصل على المزيد من الأجر لتسديد أقساط الجامعة".
تغيرت حياة اشتيوي بعد نجاحها في البكالوريوس، فقد صُنّفت في مكتب الآثار كموظفة، وزاد راتبها عن 300 دينار شهرياً بدلاً من 60 ديناراً كانت تتقاضاها سابقًا مقابل عملها كطابعة، فتمكنت من تسديد المبالغ التي اقترضتها لتسديد أقساط الجامعة، وأقنعت زوجها بضرورة حصولها على درجة الماجستير.
وعن ذلك تخبرنا اشتيوي "حصلتُ على الماجستير بعد أطروحتي التي حملت عنوان الاستيطان البشري في لواء الأغوار الجنوبية في العصور القديمة، وقررتُ وقتها التقدم للحصول على شهادة الدكتوراة، إذ كنت قد استصلحت واحدة من الأراضي الزراعية في المنطقة حينها، وأشرفت عليها يومياً لتوفير دخل إضافي يساعدني في الدراسة".
ومن المفارقات التي ترويها اشتيوي أثناء مسيرتها لنيل درجة الدكتوراة، هي حين فوجئت بأن زميلها في الدكتوراة هو ذات المشرف الذي كان في القاعة التي كانت تتواجد فيها أثناء تقديمها لامتحانات الثانوية العامة، وهو الذي اعتاد أن يمازحها قائلاً "وبعدين يا جميلة؟ بدّك تضلي تعيدي هالتوجيهي؟"، إذ نظر إليها الزميل بفخر معلقاً "إذاً أنتِ زميلتي في الدكتوراة بعد أن كنت مشرفاً عليك أثناء تقديمك لامتحانات الثانوية العامة لثلاث سنوات".
وتستطرد اشتيوي "حصلتُ على الدكتوراة إثر أطروحة بعنوان دراسة مقارنة العصر البرونزي المبكر والوسيط. وفي الأثناء، أنشئ متحف أخفض بقعة على الأرض لوجود كهف النبي لوط -عليه السلام- في المنطقة بالإضافة إلى العديد من الآثار المنتشرة من الموجب شمالاً إلى وادي عربة جنوباً، وقد عُيّن أمين عام للمتحف لفترة قصيرة، ليتم تعييني بعدها في هذا المنصب الذي تحوّل بعدها إلى منصب مدير، ولأكون أول مديرة للمتحف أيضاً".
لم تغفل اشتيوي حبها للزراعة، فما زالت تقصد أرضها لتزرع وتحصد بعد انتهاء عملها مديرة للمتحف. كما تفخر بأنها أول سيدة تحدت ثقافة العيب في منطقتها لتتابع دراستها على الرغم من عمرها الذي يعتبره البعض متقدماً من حيث تحصيل الشهادات العلمية. وتشعر بالفخر كون بعض السيدات اتخذنها نموذجاً احتذين به لإكمال دراستهن، ولا تخجل اشتيوي من كونها تعمل مزارعة إضافة لمهامها في إدارة المتحف، فهذه القصة تحمل بين طياتها الكثير من الكفاح والتحديات، والإرادة تصنع المعجزات.
يشار إلى أن "شبكة نساء النهضة" والتي تعمل تحت مظلة منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض)، تعمل على تسليط الضوء على قصص نجاح السيدات، في مختلف مواقعهن، وكيف تغلبن على التحديات التي واجهتهن ضمن سلسلة من القصص التي سيتم نشرها تباعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. تأتي هذه المدونة ضمن سلسلة من القصص التي يتم انتاجها في إطار مشروع "لأجلهن وبإرادتهن" والذي تنفذه منظمة النهضة (أرض) بالشراكة مع مؤسسة هينرش بل