مدار الساعة - زكائب وركائب وحمير وبغال..لم يكن الناس يركبوها بل كانت تحمل عليها النقود، كانت في زمن ماضي من الذهب وأحيانًا الفضة وفي معظم الأحيان معادن ثقيلة حتى وإن كانت غير نفيسة ، إلا أن الأهم هو دورها ، وكيف تعامل معها الناس، هل هي مخزن للقيمة والثروة، أم أنها وسيلة وأداة لحفظ الحق وتسيير البيع والشراء؟ هذه الأسئلة هي التي تلخص تطور العملة النقدية في الدول والممالك الإسلامية والغربية.
أدت الصعوبات التي اكتنفت نظام المقايضة (Barter System ) إلى بروز محاولات جادة للبحث عن وسيلة مناسبة تُستعمل في التبادل بعد أن أخذ هذا الأخير أبعادًا أوسع بين المجتعات المختلفة، بسبب التزايد السكاني وتطور نظم الحياة وتعقدها، فظهرت النقود وتم بذلك القضاء على نظام المقايضة بصعوباته ومشاكله، غير أن اكتشاف النقود تزامن معه طرح أسئلة عديدة منها:
ما هي وظائف هذه النقود ؟ ومم تصنع ؟
ونلحظ اهتمامًا بهذا الأمر منذ عهد الإغريق حيث إن أفلاطون قد ذكر خاصية كون النقود وسيطًا للتبادل (Medium of Exchange ) ، ولم يشترط معدنا خاصا تسك منه النقود، لأنه كان يرى أن النقود ليست لها قيمة ذاتية (Intrinsic Value)، بل ذهب إلى حد مهاجمة استعمال الذهب والفضة في سك النقود على أساس أن استخدامهما كنقود يؤدي إلى نتائج غير محمودة من الناحيتين الأخلاقية والاجتماعية، ثم تبعه أرسطو الذي كانت نظريته تختلف ـ في بعض الجوانب ـ عن تلك التي اعتنقها أفلاطون، وهي تتلخص فيما يلي:
1 – بالرغم من أن لها وظائف عديدة إلا أن الوظيفة الأساسية لها هي وساطتها في عمليات التبادل.
2 – لا بد أن تكون ذات قيمة سلعية في حد ذاتها وذلك لكي تؤدي الوظيفة الأولى كوسيط للتبادل، ويعني هذا الفرض أن النقود لا بد أن تكون شيئًا له منفعته الذاتية وله قيمته التبادلية المستقلة عن الوظيفة النقدية.
و قد أضاف علماء الاقتصاد بعد ذلك ـ على مر الأزمنة ـ إلى خاصية التبادل هذه خصائص أخرى هي:
1 – النقود مقياس للقيم
2- النقود أداة لاختزان القيم
3- النقود أداة لقياس المدفوعات المؤجلة
غير أننا إذا تصفحنا تاريخ الفقه الإسلامي نجد أن فقهاء المسلمين قد أثروا هذا الموضوع إثراءً واسعًا ، حيث كتب البلاذري، صاحب فتوح البلدان ما نصه : “كانت دنانير هرقل ترد على مكة في الجاهلية و ترد عليهم دراهم الفرس البغلية فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر ( أي ذهب ) و كان المثقال عندهم معروف الوزن … فأقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك وأقره أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، فكان معاوية ( أي في فترة حكمه ) فأقر ذلك على حاله ثم ضرب مصعب بن الزبير في أيام عبد الله بن الزبير (الذي ثار على نظام الحكم آنذاك) دراهم قليلة كثُرت بعدُ ، فلما ولي عبد الملك بن مروان وسأل وفحص عن الدراهم والدنانير فكتب إلى الحجاج بن يوسف أن يضرب الدرهم ، وضرب هو الدنانير الدمشقية “.
وكتب في موضع آخر: ” قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: (إذن لا بعير) فأمسك “.
أما الشيخ ابن تيمية – رحمه الله – فقد قال : ” وأما الدراهم والدنانير فما يعرف له حد طبيعي ولا شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي الوسيلة إلى التعامل بها ، ولهذا كانت أثمانا، بخلاف سائر الأموال فإن المقصود الانتفاع بها لنفسها فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبيعية والشرعية ، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت “
المتأمل في هذه النصوص التاريخية يصل إلى النتائج التالية:
ما نقل عن البلاذري يشير بوضوح إلى أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أقر التعامل بالدينار الذهبي والدرهم الفضي باعتبار أنها كانت النقود الموجودة آنذاك ، والنقود أمر مهم ولا شك خاصة إذا علمنا أن شئون السوق كانت من بين أول الأمور التي نظمها عليه الصلاة والسلام حينما قدم إلى المدينة المنورة مهاجرًا من مكة وليس في النص ما يمنع اتخاذ النقود من مادة أخرى وعلى هيئة أخرى . ومما سبق نصل إلى النتيجة التالية :” النقود التي تعامل بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته كانت النقود المصنوعة من الذهب والفضة . وإقرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك لم يصاحبه تشريع بقصر النقود على هذين المعدنين دون غيرهما “
ما نقله البلاذري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أنه همَّ أن يجعل جلود الإبل نقودا، ولكنه لم يفعل لما قيل له من أن ذلك سيجعل الناس تذبح الإبل لتحصل على جلودها باعتبارها نقودا ،هذا النص دليل في أن جلود الإبل ( وبالتالي أية وسيلة غيرها ) يصح شرعا أن تكون نقودا ، وإنما الذي منع ذلك هو أن السماح باتخاذ جلودها نقودا سوف يؤدي إلى القضاء على الإبل ( لأن الناس سيذبحونها طلبا لجلدها ) ، ومن هذا نستنتج ما يلي: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومعه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعتقدوا أن الذهب والفضة هما المعدنان الوحيدان اللذان يباح شرعا صنع النقود منهما ، وإنما أية مادة يمكن شرعا أن تكون نقودا، طالما أقر ولي الأمر ذلك و نظَّمه. كما يمكن أن نستنتج أمرًا آخر وإن بدا بعيدا بعض الشيء، وهو إدراك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن جعل جلود الإبل نقودا سوف يؤدي بالضرورة إلى عدم التحكم في عملية الإصدار النقدي بما لذلك من آثار سيئة على ثبات مستوى الأسعار عموما .
الرأي الذي نقل عن ابن تيمية صريح الدلالة في أن مرجع أمر النقود إلى العادة والاصطلاح ، وأن الغرض من النقود تيسير التعامل وقياس الأشياء ، ومن هذا نستنتج أن الفقه يرجع النقود إلى العادة والاصطلاح ، وهذا الربط بين النقود والعادة والاصطلاح يبعد المعنى الذي يقصر النقود على الذهب والفضة .
أما أشمل نص كتب في وظائف النقود فهو النص الذي كتبه الدمشقي ، وهو يتطابق تمامًا مع التفسير الاقتصادي الحديث ، فقد جاء في كتابه ” الإشارة إلى محاسن التجارة” ما يلي: ” جعل الناس الذهب والفضة ثمنًا لسائر الأشياء فاصطلحوا على ذلك ليشتري الإنسان حاجته في وقت إرادته، وليكون من حصل له هذان الجوهران كأن الأنواع التي يحتاج إليها حاصلة في يده مجموعة متى شاء “
ومن هذا النص الذي كتبه الدمشقي يتبين لنا أنه قد ذكر من وظائف النقود ما يلي :
مقياس للقيم ( … ثمنا لسائر الأشياء… )
وسيلة للتبادل ( … ليشتري الإنسان حاجته في وقت إرادته … )
أداة لاختزان القيم ( … في يده مجموعة متى شاء )
محمد صافي