مدار الساعة - ربما لا نعرف كثيراً عن تاريخ دولة المسلمين المغول في الهند، مثلما نعرف عن تاريخ غيرها من الدول الإسلامية الكبرى، لكنّ هذه الدولة كانت يوماً من الأيام إحدى أعظم وأقوى الدول في العالم، خصوصاً في فترات الازدهار، التي كان أبطالها سلاطين ذوي شخصياتٍ استثنائية، مثل جلال الدين أكبر، أو جلال الدين محمد أكبر، الذي يعدّه البعض أعظم سلاطين الإسلام في الهند.
كان بابر مختلفاً، فمع اشتداد عوده سار في عمليات كرٍّ وفرّ لتوسيع رقعة مملكته الصغيرة. من خلال حملاتٍ كثيرة سبقتها حملات استطلاعية، استطاع بابر أن يحوز أغنى البلاد وأكبرها في تلك المنطقة في زمانها: الهند.
التقى بابر في معركة "باينبات" الضخمة مع سلطان دلهي المسلم آنذاك إبراهيم لودهي. ويقال إنّ عدد جيش بابر كان 12 ألفاً فقط، بينما كان جيش سلطان دلهي حوالي 100 ألف، لكنّ حسن التخطيط وسلاحهم المتطور ضمنا لبابر الفور في المعركة.
أصبح بابر شاهاً عام 1526، ولكنّ المنية وافته بعد 4 سنوات فقط عام 1530. وكان قد عيّن ابنه همايون ولياً للعهد، لكنّ همايون لم يكن مثل والده.
للقراءة أكثر حول تأسيس دولة المغول في الهند يمكنك الاطلاع على هذه المادة.
تولى همايون الحكم وعمره 22 عاماً، لكنّه لم يستطع الحفاظ على وحدة الدولة مترامية الأطراف، فقد ولّى إخوته على الأقاليم، فحاول كل واحدٍ منهم الانفصال بإقليم وتأسيس دولته الخاصة.
اكتملت مصائب همايون عندما هزمه الأمير الأفغاني شير شاه صوري، واستولى على عاصمته دلهي، وهنا أصبح همايون سلطاناً بلا سلطنة. هرب إلى أفغانستان -حيث مسقط رأس أبيه بابور- ثمّ إلى إيران، حيث استقبله الشاه طهماسب الأوّل ومدّه ببعض الجنود، وأخيراً استعاد همايون العرش عام 1555، لكنّ القدر لم يُمهله كثيراً، فقد توفي في العام اللاحق، وترك ابنه الصغير جلال الدين محمد أكبر، ذا الثلاثة عشر عاماً يواجه مصيراً قريباً من مصير جده نصير الدين بابر.
عندما توفي والده عام 1556 كان في الثالثة عشرة من عمره فقط، أوصى والده أن يكون بيرم خان وصياً عليه.
كان سلطان جلال الدين بعد وفاة والده مقتصراً فقط على إقليم بنجاب والمنطقة المحيطة بالعاصمة دلهي، لكنّ حكمه الممتد طيلة 5 عقود (من 1556 وحتى 1605) سيجعله واحداً من أعظم ملوك الهند في التاريخ، وستجعله كذلك يمدّ سلطانه على أغلب أنحاء شبه القارة الهندية.
في سنوات حكمه الأولى حكم أكبر من خلال ذوي النفوذ في القصر، وأبرزهم بيرم خان، الذي تزايد نفوذه بعدما استطاع توسيع أركان السلطنة بعض الشيء، لكنّ جلال الدين أكبر أجبره على التقاعد بعد أربع سنوات فقط من توليه الحكم، كان هذا عام 1560. ومن وقتها أكمل جلال الدين خطته ليصبح سلطاناً بمعنى الكلمة، لا ينازعه أحد سلطانه على كامل شبه القارة الهندية.
بعدما سيطر جلال الدين على البيت الداخليّ أولاً، انطلق في رحلته الطويلة لتوسيع رقعة ملكة وسلطانه، فبدأ بمهاجمة ولاية مالوا الغنيّة ذات المحاصيل الزراعية، وقد سقطت المدينة في قبضته عام 1561.
كانت نخبة الراجبوت الهندوسيين، وهم طبقة سياسية محاربة، تسعى دوماً للاستقلال عن حكم دولة المغول المسلمين، وقد نهج معهم جلال الدين سياسة الاسترضاء والغزو معاً.
ففي عام 1562 كان حاكم ولاية أمبر مهدداً بصراع على الخلافة من بعده، وهنا كان جلال الدين حليفه، إذ تزوّج ابنته، وهكذا أصبح لوالدها حليف قوي يستند عليه في صراع الخلافة من بعده.
استمرّت سياسة جلال الدين على نفس النمط مع زعماء الرجبوت الآخرين، فقد سمح لحلفائه منهم أن يحتفظوا بأراضيهم، شرط الاعتراف بسلطانه ودفع الجزية السنوية له، وامداده بالجند وقت الحاجة.
ولكن على الجانب الآخر لم يتهاون أكبر أبداً مع من رفض سيادته، إذ تذكر كتب التاريخ أنّه سيطر على قلعة شيتور التاريخية (شيتورغاره الآن)، بعد قتالٍ مريرٍ عام 1568، فقد أمر بذبح كل سكانها.
ولايةً بعد أخرى، اعترفت ولايات الراجبوت الهندوسيين وغيرهم بسلطان أكبر عليهم، وتبعيتهم له، لكنّ ذلك جعل جلال الدين أكبر أمام تحدٍّ آخر، فالهند متنوعة الأعراق والمعتقدات، وهو مسلم، وعليه الآن أن يفتح السبيل أمام غيره من المعتقدات ليأخذوا مساحتهم السياسية مثل الدينية، وهذا من شأنه أن يوطّد دولته ويزيدها استقراراً.
تبنّى أكبر طرقاً دينية وسياسية أكسبته ولاء الشعوب غير المسلمة في أرضه، فبعدما سمح لغير المسلمين بالاحتفاظ بولاياتهم، أصلح أكبر إدارته المركزية وقوَّاها، ولجأ إلى مركزة النظام المالي وإعادة تنظيم عمليات جمع الضرائب.
كما سمح للهندوس والراجبوت بالمشاركة الواسعة في حكومته المركزية، فقد حاز أمراء الراجبوت أعلى المراتب، في قيادة الجيش وفي حكم الأقاليم، تحت لواء المغول المسلمين في الهند.
كما اهتمّ بشكلٍ كبير بالديانات الأخرى في الهند، وأقنع الهندوس والبارسيين والمسيحيين والمسلمين بالمشاركة في النقاشات الدينية والمناظرات أمامه، في الديوان الإمبراطوري. وقد دشّن أكبر ما سمّاه "الدين الإلهي"، ويعتبر مذهباً وليس ديناً، وهو مذهب يجعل جميع الديانات والمعتقدات تحترم وتتقبّل الديانات والمعتقدات الأخرى السائدة في الهند.
جعل هذا "الدين الإلهي" أكبر في مرمى الانتقادات الدينية، من قبل بعض المسلمين، بل والهندوس وغيرهم، لكنّه كان ماضياً في خطته: توحيد الهند ليس فقط عبر السياسة، ولكن عبر تقبُّل الاختلافات والتنوع في الإمبراطورية.
المثير للانتباه في شخصية أكبر أنّه كان أمياً، فقد تركّزت تربيته الأولى على الفروسية والإدارة والحكم، كما أنف في طفولته دروس الفلسفة وغيرها من العلوم، لكنّه حين كبر ونضج أصبح أكثر اهتماماً بالفلسفة والعلوم والأديان، فقد اجتذب العلماء والشعراء والرسامين والموسيقيين، وجعل بلاطه مركزاً للثقافة في شبه القارة الهندية.
بدأ عهد جلال الدين أكبر وسنّه 13 عاماً، مثله مثل جدّه الذي بدأ عهده وسنّه 11 عاماً، كما بدأ جده بإمارةٍ صغيرة في أفغانستان، بدأ جلال الدين بإمبراطورية متآكلة لم يتبقَّ منها سوى العاصمة دلهي وإقليم البنجاب، لكن انتهى به الحال وهو يسيطر على مساحات لم يصلها جده نصير الدين بابر.
بنهاية عهده كان جلال الدين محمد أكبر يسيطر على منطقة غوجارات، والبنغال، وإقليم كشمير، والسند (باكستان)، وقندهار (في أفغانستان).
كما تحرّكت قوات مغول الهند جنوباً إلى سلسلة جبال فنديا نحو هضبة الدكن، وبحلول عام 1601 كانت خانديش وبيرار وقطعة من أحمدنجار قد أضيفت إلى إمبراطورية أكبر. وفق ما ذكر موقع الموسوعة البريطانية Britannica.