مدار الساعة - في السادس من أبريل 2021 يرحل عالم الأديان السويسري الشهير الدكتور “هانز كونج” عن ثلاث وتسعين عاما، وهو من أشهر اللاهوتيين الذين وجهوا انتقادات حادة للكنيسة الكاثوليكية، مطالبا إياها بإدخال إصلاحات جوهرية، فيما يتعلق بعصمة “بابا الفاتيكان”، كذلك نادى بالسلام بين الأديان باعتباره مدخلا للسلام العالمي، كما أنه من المستشرقين الكبار الذين أظهروا احتراما عظيما للإسلام، وتجاه النبي-صلى الله عليه وسلم-، مبديا تعجبه من المؤسسات الدينية المسيحية التي تظهر الاحترام لشخص المسلم العادي، في حين أنها تنكر الاعتراف بالقرآن الكريم، أو برسول الإسلام، فيقول: “إن إحدى مفارقات الفاتيكان أن يقرر النظر للمسلم العادي بكل احترام، وفي الوقت نفسه يتجنب الإشارة للقرآن أو محمد”، ولعل هذا الاحترام كان وراء ترويج البعض لإسلامه(1).
وأمام تلك الأزمات، أخذت الرؤى الدينية تتنفس، بعد عقود طويلة من الكبت والإلغاء، منذ القرن الثامن عشر الميلادي، عقب الثورة الفرنسية، وفي ذلك المناخ المتسامح مع الدين، تفتح إدراك “كونج” واعتاد في تلك السنوات الأولى من حياته على منح نفسه وقتا للتأمل، فتدرب طيلة سبع سنين على أن يمنح نفسه كل صباح قبل الفطور نصف ساعة، يتفرغ فيها للتأمل، ويبدو أن ذلك الوقت كان له تأثيره الكبير على مساره الفكري خلال عمره المديد، إذ منحه الاستقلال في رأيه، والرغبة للوصول إلى الحقيقة، والنفاذ السريع إلى لب القضايا، والقدرة على التعبير عن أفكاره بوضوح، وامتد تأمله إلى التفكير في الإنجيل، والاحتفالات الدينية، وكثير من الثوابت الكنسية.
وفي أكتوبر 1954 أصبح هانز كونج كاهنا، وفي الفترة من 1955 و1957 درس في السوربون، ثم أنهي رسالته للدكتوراه عام 1960، وقام بتدريس اللاهوت في جامعة “توبنغين” الألمانية، ومنذ تلك الفترة أخذ يفكر في إصلاح الكنيسة، وكان من أهم المباديء التي نادى بها، الغاء العزوف عن الزواج للرهبان، في مذكراته “معركتي من أجل الحرية” يشير أنه أمضى حياته في مصارعة الاتجاهات المحافظة داخل الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان، إذ كانت معايشته للحقبة النازية، أثرها في معاداته للديكتاتورية، أيا كان شكلها، وبعد مجمع الفاتيكان الثاني(2)، عمل “كونغ” عميدا لكلية اللاهوت بجامعة توبنغن، وعايش ثورة الشباب التي انطلقت من فرنسا عام 1968، التي وصفها بأنها كانت فاصلة في حياته.
كانت أفكاره ثورية لدرجة أن الكثيرين اعتبروها بمثابة دعوة لإصلاح ثان داخل الكنيسة، وقال البعض:” الدكتور كونج هو أخطر تهديد للكنيسة الكاثوليكية منذ مارتن لوثر “.
طرح “كونج” رؤيته ومشروع للسلام بين الأديان والأخلاق العالمية، عام 1991 في المؤتمر العالمي للأديان في شيكاغو، محاولا تفعيل منهج الحوار لإيجاد صيغ جامعة تقلص الهوّة بين الديانات والإيديولوجيات المختلفة، وتضع أرضية مشتركة لقيم أخلاقية إنسانية جامعة تسهم في نبذ العنف، وإرساء التعايش السلمي بين الأديان، وصاغ بنفسه مسودة ذلك المؤتمر، وقد أصدر كتابا مهما في هذا الشأن بعنوان ” لماذا مقاييس عالمية للأخلاق”، وكتاب آخر بعنوان ” مشروع أخلاقي عالمي، دور الديانات في السلام العالمي”.
يؤكد “كونج” أن الغرب يعاني من فراغ في المعنى والقيم والقواعد الأخلاقية، وأن المشكلة تتعدى الأفراد إلى كونها مشكلة سياسية على أعلى مستوى، منتقدا مكتسبات الحداثة الغربية، فالغرب اهتم بالعِلم وأهمل الحكمة التي تمنع تجاوزات البحث العلمي، واهتم بالتكنولوجيا وأهمل الطاقة الروحية التي تسمح بمراقبة الأخطار الناجمة عن التكنولوجيا المتطورة، واهتم بالصناعة وأهمل علم البيئة الذي يتصدى للتوسع الاقتصادي على حساب البيئة، واهتم بالديموقراطية، وأهمل الأخلاق التي تتصدى لمصالح القوى الكثيفة للأفراد والفئات الحاكمة، ومن ثم فمستقبل الانسانية الأفضل مرتبط بالخضوع للأخلاق، حتى لا يتحول الإنسان إلى وسيلة، فالإنسان هو الهدف النهائي، فهو الغاية والمقياس، وكان يرى أن مشاريع الأخلاق العالمية يجب أن تكون في شكل منظومة متكاملة تجمع العدالة والحرية والمساواة والتعايش والتعددية والسلام والحرية، وبعد تقاعده من منصبه كأستاذ في عام 1995 ، أنشأ مؤسسة الأخلاق العالمية، ومن كتبه التي حازت على شهرة كبيرة، “أن تكون مسيحيا” On Being a Christian الذي بيعت منه مئات الالاف من النسخ، وكتابه “هل الله موجود؟ .” Does God Exist? .