أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات وفيات برلمانيات جامعات أحزاب رياضة وظائف للأردنيين مقالات أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

من وحي المئوية.. بين سنوات سمان وأخرى عجاف

مدار الساعة,مقالات مختارة
مدار الساعة ـ
حجم الخط

كتب: د. جواد العناني

من القصاصين في العالم الذين يستحقون أن يُقْرأوا هو الأديب الكولومبي «جبرائيل جارسيا ماركيز`gn» Gabriel García Márquez» صاحب كتاب الحب في عصر الكوليرا، ومئة عام من الوحدة، وغيرها. ولعل أجمل اقتباس له هو ذاك الذي يقول فيه «ليس صحيحاً أن الناس يتوقفون عن متابعة أحلامهم لأنهم يشيخون، بل الصحيح أنهم يشيخون عندما يتوقفون عن متابعة أحلامهم».

ولقد تذكرت هذا الاقتباس الرائع، وأنا أفكر في الإشاعات واللغط الذي يجوب أنحاء البلاد، وكثرة التطاول في الشتم، والحدة في اللسان. وتذكرت أن الغاضبين والمفتونين بأنفسهم في بلدنا الأشم يستخدمون ثلاثة أسلحة فتاكة. فهم يستخدمون المسدسات والمدي والعصي لقتل الأنفس كما يُستدل من أرقام الجريمة، وصاروا يمارسون الجريمة البشعة النوعية التي تثير النفوس وتدفعها للاشمئزاز.

وأما السلاح الثاني فهو السيارة وتجد الأردني رائعاً خلوقاً سمحاً حتى تجلسه خلف مقود السيارة، فيستعملها الغاضبون والمفتونون بأنفسهم سلاحاً للهجوم على الآخرين، وتعريض حياتهم للخطر الداهم لمجرد أنه يريد أن يثبت تفوقه على الآخرين معتقداً أن السائق في مهمة حياة أو موت.

والسلاح الثالث هو اغتيال الأشخاص الآخرين عبر الهواتف التي صارت سلاحاً نصوبه على سمعة الناس وأعراضهم، عرفناهم أم لم نعرفهم، مُحقين في شكوانا أم لم نكن، ولا ينجو أحد من الألسنة الحداد التي تعبر عن مكنوناتها بكلمات ورموز على شاشات الهواتف النقالة.

بالطبع كانت هنالك ألسنة حداد في الأردن منذ عهد الإمارة. فالإعلام العربي الذي كان يسف في شتم زعماء الدول الأخرى، خاصة بعد مخاض الثورات والانقلابات المبررة بالكلام العالي فصار مذيعون مشهورون يعملون ذلك. ومن منا ينسى أحمد سعيد، أو القاضي المهدَاوي، والرد عليه من الإذاعة السورية » اللَّهُمَّ اللهم.. تبعت للمهداوي حُمَّه»، وألّفت المسرحيات والمسلسلات الساخرة من زعماء الدول الأخرى. ويقول الفيلسوف البريطاني » فرانسيس بيكون» أن للإنسان أربعة مصادر للمُثُل » Idols of the Mind» التي يتقيد بها ويتمسك بها حتى العبادة. أولها المُثُل المشتقة من إرث القبيلة، وثانيها من الكهف، وثالثها من السوق، ورابعها من المسرح.

أما مُثل القبيلة، فهي التي يحملها الانسان ممن سبقوه، ويعتقد أنها صادقة وتنطبق على العالم كله. وهذه عادة ما تكون مبالغات وتضخيمات لأفكار تتبناها القبيلة ويصعب تصويبها وإخضاعها للعلم.

أما مُثل الكهف فهي التي يكتشفها الانسان بنفسه لنفسه وهو في ظلمة الكهف الذي يعيش فيه. وهذه تنطبق عادة على من يتخصصون في أمر ما ويعتقدون أن العالم يمكن تفسيره من خلال معرفتهم التخصصية لا الجمعية.

اما مُثل السوق فهي تشير إلى الكلمات التي نستخدمها ونجعلها آلهة من تمر، ونطلقها على من نحبهم ونكرههم، ونكتفي بذكر الكلمة دون شرح محتواها. وقد جَعَلت اللغات الحزبية في العالم العربي بمثل هذه الألفاظ مثل التقدمية والرجعية، الوطنية أم الخيانة، الانضباط مقابل التسلقية، والكفاح مقابل الانبطاحية، والاشتراكيون أم الزنادقة. وتصبح كل كلمة من هذه إما تهمة أو وساماً.

وأما النوع الرابع من المُثُل التي سماها فرانسيس بيكون بالمثل المسرحية، حين يصبح الناس أكثر ثقافة، ويرون في تنوع ثقافتهم مصدر فخر يرفضون به الآخرين أو يقبلونهم ويتبنى هؤلاء السفسطائيون. كما يقول بيكون بنياناً كاذباً من الثقافة المتغطرسة، والتي ترفض الآخر لأنه لا ينتمي إليها.

ونحن في الأردن، وفِي معظم الدول العربية مارسنا كل هذه المصادر من المُثُل التي نتبناها لنحكم بها على الآخرين، وقد استفحلت هذه الأمور إلى حدود صارت تفتك بالمنجزات، وتحول دون التراكم للايجابيات، وتشكل تشويشاً للمجتمع، يدفع بالكثيرين إلى اليأس وممارسة السلبية وما يتبعها من ألفاظ.

وكم من شخصية أعدمت أو طمست في الوطن العربي لأننا بعناها للغوغائية من السلوك، فيُقضى عليها، ونخسرها، ولا ندرك أننا ظلمناها إلا بعد فوات الأوان.

ويقول علماء «نيورولوجي» أو علم الأعصاب، أن الحواس قد تتوقف عن العمل عندما يصل الانسان إلى مرحلة الاستغراق الكامل في النوم. ولكن الدماغ يعمل (24) ساعة في اليوم، و (7) أيام في الاسبوع و (52) أسبوعاً في السنة، أي أنه لا يتوقف أبداً. ويستقي الدماغ معلوماته من الحواس الخمس وبخاصة البصر والسمع. وإذا ما وقفت الحواس عن العمل توقف إرسال المعلومات إلى الدماغ، وعندها يبدأ الدماغ في تحليل المعلومات واستنباط الأفكار. وإذا أرسلت الحواس معلومات علمية مدروسة موزونة إلى الدماغ، فإنه سيكون خلاقاً لأفكار إيجابية مفيدة. أما إذا وصلت إليه معلومات من نوع القمامة وفشة الغل والشتم والمبالغة، فإنه متى ما بدأ بتحليل المعلومات السلبية وتطويرها فسيخرج بأفكار رديئة سيئة. وقد كان الأردن طوال حياته هدفاً ليس من الذين لا يحبونه فحسب، بَلْ ومن الطامعين فيه. فإن عجزوا عن النيل منه بدأوا بتشغيل مكائن الإشاعات والكذب والألفاظ الاتهامية، والنقد الساخر للدولة. ولذلك عشنا دهراً منذ نشأة الإمارة قبل 100 عام، ونحن تكال لنا التهم بأننا أذناب الاستعمار، والمتآمرون، والرجعيون. ولكننا بنينا نُظماً تعليمية رفعتنا فوق ذلك المستوى. فكانت سهام الباطل المُصَوبة نحو البلد لا تصيبنا.

ورغم أن الأردنيين من كل الخلفيات قد تعايشوا وتدافعوا وتصالحوا وتخاصموا، إلا أنهم وجدوا طريقة لردم الهُوات الفاصلة بينهم. وللتعايش، والوقوف صفاً واحداً في المحن. وترى لغتنا وأقوالنا عند الشدائد تتوحد، وترقى، وتعلو على التهم والفسافس والسفاسف من القول، أو الاتهام، أو السعي لتفرقة الصف.

ولكننا في المحن الاقتصادية والاجتماعية، وعندما نبلى بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس نفقد صبرنا، علماً أن الله يقول في تلك الآية من سورة البقرة «وبشر الصابرين» في هذه المحن العامة يجب أن نظهر أحسن ما عندنا من صفات وهي الكرم والأصالة والجود وحماية الضعيف ونصرة الملهوف. لا أن نتنابز بالألقاب ونغتب بَعضنا بعضاً والذي شبهها الخالق الباري بقوله في سورة الحجرات «أيجب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه».

لقد تكاثرت علينا في السنوات الأخيرة مشاكل جمة جعلت سنواتنا عجافاً، أكلت كثيراً من الأخضر واليابس. وكلما آنسنا خبراً يبدو من بشائره أنه مُفرح ومغير لما نعانيه، فأجانا تطور جديد يقض مضاجعنا، ويخرج السلبيات التي فينا. علماً أن هذا الوقت الأجدى لكي نرجع إلى رصيد شعبنا من الصبر على الشدائد، وتفريج كرب الآخرين، والتضامن والتكافل، وبهذه الروح الإيجابية نسمو.

لم يمض على عمر دولتنا سوى مئة عام. ونحن نبدو كنظام سياسي من أقدم الدول العربية. ولكننا في عمر الزمان شباب. فلماذا نحكم على أنفسنا بالمشيب كما قال «غابرييل غارسيا ماركيز» لأننا لم نعد نسعى لتحقيق أمنياتنا بل للنكوص عنها حيث ينطبق علينا قول الآيات الكريمة من سورة ص (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22). ويقول الإنجيل «بل نفتخر أيضاً في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء».

آن الأوان أن نتخلى عن إنهاك أنفسنا باليأس، والضجر، والذم، والقول الفاسد، والمبالغات الفارغة. وأن نسأل أنفسنا «هل يقوم كل منا بما يجب؟» في زمن الشدة يجب أن نطبق قول الشاعر أبو ذؤيب الهُذَلِي في قصيدته التي يقول مطلعها:

أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ

حتى يقول في هذه القصيدة ما وصفه الأصمعي بأفضل بيت شعر قالته العرب:

والنفسُ رَاغِبَة إِذا رَغَّبْتَها وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيْلٍ تَقْنَعُ

وهذا هو الصيام الحقيقي وترويض النفس على قبول ما قُسِم لها فتتأقلم معه حتى يكون ما تريد.

وكما قال المتنبي:

صَــحِــبَ الــنَّـاسُ قَـبْـلَـنَـا ذَا الـزَّمَـانَـا وَعَــنَــاهُــمْ مِــنْ شَــأْنِــهِ مَــا عَــنَــانَـا

وينسى الناس عندما تضيق عليهم الأحوال ويختبرهم الزمان بعوائده أنهم هم وحدهم المكابدون. ويصبح حال من لا يُؤْمِن ما وصفه ابن خلدون في مقدمته:

«إن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله».

وبالطبع فإن كلمة التشيع كما يستخدمها ابن خلدون ليس لها علاقة إلا بتجانس الأحرف مع المذهب الشيعي. وهو يقصد بها التمسك بالرأي والعناد فيه. ولكن أي وصف أدق من هذا الذي شرحه ابن خلدون في واحدة من أهم مساهماته في علم النفس الاجتماعي، وكيف ننقل الكذب بعدما نقبله لأنه يوافق هوانا وينسجم مع القليل غير الموثق الذي نعرفه، فنساهم في صناعة الجهل والتجهيل.

إن نشر الكذب والإشاعة يساهم في تقليل الأمن والأمان في المجتمعات بطرق كثيرة، ويؤدي إلى خلق الخوف. والخوف هو أكبر مصدر للعنف والمبالغة. نحن بحاجة في وطننا بعدما تجاوزنا الأزمة، وعادت النفوس المهتاجة إلى جسومها ورشادها، أن نفكر كيف سنتجاوز الأزمة التي نعيش فيها، هذا هو التحدي. وحتى نستطيع أن نكون مبدعين مبتكرين علينا ان نمحص الحقائق، ونبحث بجد وجهد عن الحقيقة، حتى تمكننا من الوصول إلى الحلول الصحيحة. العاطفة ضرورية إذا اقترنت بالايمان الصادق بأن هذا الوطن يجب أن يصان ويُستدام، أما اذا كانت العاطفة الهوجاء رائدنا فسنفقد قدرتنا على رؤية الأشياء كما هي، وسوف لا سمح الله نعيش بين الأشباح.

في قصة ألف ليلة وليلة المُسماة بمدينة النحاس، يلقي ساحر طلسماً على المدينة فيتحول فيها كل الناس والأحياء إلى تماثيل من نحاس تُجَسّد ما كانوا يفعلونه عندما ألقى الساحر تعويذته عليهم. وما انفك السحر عنها إلا بالفارس الهمام إقبال. وإقبال لن يكون «اقبالاً» إلا إذا كان أهل مدينة النحاس يريدونه أن يفتك بالساحر الشرير ويرفع عنهم التعويذة، فيعودون إلى الحياة الدافقة، والمدينة العامرة التي خرجت من الجمود إلى الحياة.

الرأي

مدار الساعة ـ