مدار الساعة - لا ينكر أحد مكانة المعلم وأهميته في العملية التعليمية، فهو العمود الفقري والركن الرئيس في أركان التعليم، وفي ذلك يقول ابن باديس في رؤيته لإصلاح التعليم منوها على دور المعلم :” ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادته وصورته فيما كان يعلم صلى الله عليه وسلم وفي صورة تعليمه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أنه قال:” وإنما بعثت معلما”[1]، فماذا كان يعلّم؟ وكيف كان يعلّم” [2]
ويذكر الشاطبي أن من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام[3].
وأصل هذا في الصحيح: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء” [4].
ولجودة التعليم – بشكل عام والتعليم الشرعي بشكل خاص- يجب توافر معايير على أساسها اختيار المعلمين، وأصل وجود معايير في الأشخاص المتقدمين لأي وظيفة أشار إليها القرآن الكريم بقوله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }[5] ، وهما معياران عامان يجب توافرهما في كل وظيفة، والقوة تعني القدرة والخبرة والإتقان في العمل، ومعها الأمانة وهي السياج الأخلاقي الذي يحمي الخبرة، لأن الأخلاق بلا قدرة عجز، والقدرة والخبرة بلا أخلاق فجور.
ومن أهم تلك المعايير:
حسن السريرة:
ويقصد بذلك أن يكون المعلم ذا سيرة محمودة ، وذلك أن علوم الشريعة ليست معارف مجردة، بل هي معارف عالية مقصود بها التطبيق، ومن خلال المدارسة بين المعلم وتلامذته يكتسب منه طلابه أخلاقه حسنة كانت أو سيئة.
ومما ورد في ذلك ما أثر عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه قال: «جالسوا من تذكركم بالله رؤيته ومن يزيد في علمكم منطقه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله»[6].
وقال الحسن البصري :”كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه ولسانه ويده”[7]
وقال ابن وهب: «ما تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه» [8]
وعن أبي حنيفة قال: «الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم»[9]
وقال أبو الدرداء، «من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم» [10]
وقال أيوب السختياني: الذي له في الفقه معلم واحد كالرجل له امرأة واحدة”[11]
الكفاءة:
فمن أهم معايير المعلم أن يكون كفأ متميزا في مادته، ويشهد لهذا ماورد في الحديث:” أفرضكم زيد وأقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل”[12]، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حق عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (هو مَنْ علمتم).
وقال مالك ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتوى جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد فإن رأوه لذلك أهلا جلس وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم إني موضع لذلك.
وقد وضع الإمام الشاطبي شروطا تتحقق بها الكفاءة في المعلم، من ذلك:
- أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم
- قادرا على التعبير عن مقصوده فيه .
- عارفا بما يلزم عنه.
- قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه
فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية؛ وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال، غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة؛ … فإن قصر عن استيفاء الشروط؛ نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان؛ فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص [13].
علامات العالم الذي يؤخذ عنه العلم:
كما وضع الشاطبي علامات يعرف بها المعلم المستحق للأخذ عنه، وهي:
العلامة الأولى: العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم.
العلامة الثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح.
وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف.
العلامة الثالثة : الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن. [14]
معايشة الطلاب:
إن دور المعلم لا يقف عند حدود الدرس – كما هو الحال الغالب-، بل من دوره أن يرعى طلابه خارج أوقات الدرس، لأنه بمثابة أبنائه، يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس عن هذا المعنى: “أغلب المعلمين في المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر لا يتصلون بتلامذتهم، إلا اتصالاً عاماً لا يتجاوز أوقات التعليم، فيتخرج التلامذة في العلوم والفنون، لكن بدون تلك الروح الخاصة التي ينفخها المعلم في تلميذه – إذا كان للمعلم روح – ويكون لها الأثر البارز في أعماله العلمية في سائر حياته. فعلى المعلم الذي يريد أن يكوّن من تلامذته رجالاً أن يشعرهم – واحداً واحداً – أنه متصل بكل واحد منهم اتصالاً خاصاً زيادة على الاتصال العام، وأن يصدق لهم هذا بعنايته خارج الدرس بكل واحد منهم عناية خاصة في سائر نواحي حياته حتى يشعر كل واحد منهم أنه في طور تربية وتعليم، في كفالة أب روحي يعطف عليه ويُعنى به مثل أبيه أو أكثر”[15].
ومما تجد الإشارة إليه هو أن المعلم يطلب منه دوما دون مراعاة لاحتياجاته المتعددة، فبقدر العناية والاهتمام بالمعلم، بقدر ما يكون عطاؤه، وذلك من عدة جوانب:
الأول: الكفاية المعيشية:
فمن الواجب رعاية المعلمين رعاية معيشية تليق بالوظيفة التي يقومون بها، وأن يعطوا ما يكفيهم مما يسد احتياجاتهم في الحياة، حتى لا يضطروا إلى بعض السلوكيات الخاطئة التي نراها في المدارس، من عدم إتقان عملهم، وإجبار الطلاب على الدروس الخصوصية، أو غيرها.
الثاني: التنمية والتدريب:
فمن الواجب على المؤسسات التعليمية أن تطور من أداء المعلمين، من خلال إعطائهم ما يحتاجون من الدورات التدريبية اللازمة حتى يقوموا بواجبهم على الوجه الأكمل، وألا يبخل عليهم في النفقة في التدريب والتأهيل والتطوير.
الثالث: الرعاية النفسية:
وذلك من خلال إنزال المعلم منزلته التي تليق به في المنظومة الفكرية في الإسلام، وأن المعلم في المقام الأول هو مرب ومصلح، ويبدأ هذا من أجهزة الدولة والمؤسسات خاصة الإعلامية والفنية التي تصور المعلم برتبة محتقرة، ومن خلال مدراء المؤسسات التعليمية، وفي المدرسة نفسها أو المعهد أو الجامعة، بل لابد أن تكون ثقافة مجتمع، من خلال الإذاعة والتلفاز والصحافة الورقية والإلكترونية.
إن من الأهمية بمكان اختيار وضع معايير لكل من يتقدم لوظيفة المعلم في المدارس والجامعات، وألا يكتفى بالشهادة المتحصل عليها، وفي ذلك يجب أن يقدر المعلم ماديا ومعنويا؛ حتى يقوم بدوره المنوط به.