أخبار الأردن اقتصاديات دوليات مغاربيات خليجيات وفيات جامعات برلمانيات وظائف للأردنيين رياضة أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مناسبات جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

استثمار الأموال في ضوء إعمال المقاصد القرآنيَّة

مدار الساعة,شؤون دينية
مدار الساعة ـ
حجم الخط

وذلك شأن الإسلام، فإنه- وإن كان مؤسسا على عقائد ثابتة وحقائق خالدة- زاخر بالحياة ، حافل بالنشاط، له من الحيويَّة معين لا ينضب، ومادة لا تنفد، صالح لكل زمان ومكان، عنده لكل طور من أطوار الحياة، ولكل عهد من عهود التاريخ، ولكل مجتمع عصري من مجتمعات البشر، مدد لا يقصر عن الحاجة ، ولا يتأخر عن الأوان. فلا هو مساير مائع ككثير من الأديان المحرَّفة، ولا هو مراقب جامد ككثير من الفلسفات النظريَّة، إنه باختصار كما وصفه العلامة أبي الحسن الندوي:”الدين الحي للإنسان الحي الذي يشعر بشعوره، ويعترف بحاجاته، ويرشده في مشاكله، ويعارضه في اتجاهاته الفاسدة”.[1]

ولكن لنا أن نتساءل كيف يستطيع الإسلام أن يقوم بتلكم الوظيفة ويحقق ذلكم الهدف على اختلاف الأزمان والأمصار وتكاثر المعضلات والمشكلات وتصلب التحديات؟

والجواب: أن مرد ذلك إلى أمرين اثنين:

الأمر الأول: الحيويَّة الكامنة في وضع الإسلام نفسه وصلاحيته للإرشاد في كل بيئة وفي كل عهد محيط، فقد خص الله محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة تستطيع أن تواجه كل ما يتجدد من أحداث، وتحل كل ما يعتري الحياة من مشكلات، ولعل الدراسة الشاملة للقرآن والسنة ومصادر الإسلام كافلة بالإقناع والإفحام.

الأمر الثاني: هو أن الله عز وجل تكفل بأن يمنح هذه الأمة رجالا أقوياء أتقياء علماء صلحاء مصلحين، يجددون فهم الدين ويعيدون للأمة شبابها ونشاطها.

إن المتدبر للآيات القرآنيَّة يجدها قد بينت مقاصد الشريعة في الحث على الكسب والإنتاج،ولم تتردد في جعل المال قوة يرتكز إليها المؤمن في دار الدنيا ليحقق غايات وأهداف الاستخلاف في الأرض.

ففي المعين القرآني وبيانه الهدي النبوي دلالات عظيمة وآيات حكيمة وسنن قويمة تبرهن وتبين أهميَّة الكسب الحلال في ترسيخ معنى الطاعة والاستخلاف، كما تؤكد على قيمة وخصوصيَّة الإنتاج والإبداع إن كانا منضبطين بربانيَّة الغاية و البواعث والأهداف، وتعزز صلاحيَّة النظريَّة الإسلاميَّة في الاقتصاد والمال لإنقاذ الأفراد والمجتمعات من التخبط السائد في منطلقات الحياة الماليَّة المعيشة، والحالة الاجتماعيَّة المنبثقة عنها، جراء عدم احترام ضوابط الشرع والغفلة عن مقاصده في المنح والمنع والتقديم والتأخير، وفي سياسة المال وتدبير الاقتصاد والأعمال، وقد شهد التاريخ نجاح التشريع المالي الإسلامي في إنقاذ البشريَّة من وهدة الفقر واستبداد الغنى وظلم الربا وجهل الإنتاج، وهو مرشح اليوم – بل المرشح الوحيد- ليوقف تغول المال وتسيده، ويعالج ما خلفه من أزمات ويـخمد ما أوقد من حروب وصراعات ويصحح مسار الإنسانيَّة إلى ما فيه صلاحها، فيصبح المال عامل بناء وتعاون، لا معول هدم ودمار، فلا قيام للعالم إلا بحسن تدبير المعاش والاكتساب وقد قيل:”إذا أسلم المال أسلم العالم كله”.

ولقد جُربت العديد من النظريات التي وعدت ولكنها انتكست لعدم جديتها في المعطيات ولا حتى في التنفيذ، فلا نجاعة في الوسائل أحيانا،ولا منفعة في الأهداف غالبا، لكن المشروع الرباني القرآني للتعامل مع المال كان واضحًا كل الوضوح في تناول كثير من القضايا الماليَّة والعديد من المسائل الاقتصاديَّة المتعلقة بالإنتاج والاستهلاك والاستثمار والتوزيع، وحماية المال العام، وحرمة المال الخاص.

إذن فالإشكال العلمي الذي يحاول هذا البحث معالجته هو: الكشف عن موقع المقاصد القرآنيَّة للتشريعات الماليَّة في ضبط وتوجيه عمليَّة استثمار الأموال.

وعنه تتفرع بعض الإشكالات الجزئيَّة_الخادمة له_ والتي يمكن إجمالها في التساؤلات التالية:

– ما علاقة مقاصد القرآن بالتصرفات الماليَّة؟

– ما هي الضوابط المقاصديَّة القادرة على ممارسة وظيفة التوجيه والتسديد والتطوير لحركيَّة المال؟

وهو ما سأعالجه بعد هذه المقدمة من خلال محورين: الأول يتطرق إلى مقاصد القرآن من تشريع الأحكام الماليَّة، والثاني يتناول استثمار الأموال على ضوء المقاصد القرآنيَّة أو ما يطلق عليه “تقصيد الاستثمار”، وصٌدِّر المحوران بمبحث تمهيدي لغرض تدقيق المفاهيم والمصطلحات، وذُيّلا بخاتمة.

يتبين من خلال ما جاء في معاجم اللغة، أن “الإعمال” مصدر الفعل المتعدي “أعمل”، ويدور حول معاني ثلاثة، وهي التمكين، والمطاوعة، والقدرة على التوظيف.[2]

أما اصطلاحا فرغم كثرة تداوله عند الأصوليين والفقهاء في كتاباتهم فإنهم لم يهتموا بوضع تعريف له يبين حده، وهو ما حاول استدراكه أحد الباحثين المحدثين، فبعد أن قرر الدكتور عبد الكريم صغيري أنه في بحثه عن تعريف للإعمال لدى القدامى لم يظفر بشيء يذكر، وأشار إلى أن تداوله الكبير لدى السابقين يوحي بأصالة المصطلح ويهدي إلى ماهيته، بعد ذلك وضع له تعريفا كالآتي:”ومن هنا يمكن القول: إن مصطلح “الإعمال” هو القدرة على التوظيف، والتمكن من التنزيل والاستخدام، فالقياس مثلا دليل من الأدلة، لكن توظيفه واستخدامه في استثمار الأحكام يسمى “إعمالا”[3].

انطلاقا من استعمال الأصوليين والفقهاء لمفهوم “الإعمال” في كتبهم، ومن التعريف الذي صاغه الأستاذ صغيري، يمكن أن نعرف ” الإعمال” بأنه: القدرة على توظيف أمر ما، والتمكن من تطويعه واستعماله وحسن تطبيقه وتنزيله بما لا يخرجه عن حقيقته.

وأما المقاصد فهي جمع مقصَد_ بفتح ما قبل آخره_ إذا أردت المصدر بمعنى القصد، وإذا أردت المكان بمعنى جهة القصد فيكسر ما قبل آخره (مقصِد). وبالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن دلالة “القصد” تدور حول: التوجه، والعزم، والعدل، والاستقامة.[4]

وفي الاصطلاح فقد تعددت التعاريف –ولم تختلف كثيرا ، سوى ما كان في الإجمال والتفصيل- وكلها عائدة إلى أن “المقاصدhttps://islamonline.net/16244” هي المعاني والحكم والغايات التي انطوت عليها الشريعة عند كل حكم من أحكامها، وأكتفي بالإشارة إلى تعريفين اثنين، الأول للأستاذ علال الفاسي حيث قال:” المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”[5]، والثاني للشيخ عبد الله بن بيه إذ يقول:” مقاصد الشريعة : هي المعاني المفهومة من خطاب الشارع ابتداء، وكذلك المرامي والمَرَامِزُ والحِكم المستنبطة من الخطاب، وما في معناه؛ من سكوت بمختلف دلالاته، مدركة للعقول البشريَّة، متضمّنة لمصالح العباد، معلومة في التفصيل أو في الجملة”[6].

وهكذا يمكن القول بأن “إعمال المقاصد” هو: “القدرة على توظيف المقاصد، واستعمالها في فهم النصوص، والاستعانة بها في معرفة الواقع، واستخدامها في تنزيل الأحكام على الوقائع”. فهو إذن عمليَّة طويلة المدى، عظيمة الأثر تقوم على استصحاب المقاصد مذ تلقي النصوص وفهمها، مرورا بتقدير الواقع وتقييمه، وصولا إلى التفاعل معه بالحكمة المطلوبة أثناء التنزيل.

وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى إعمال المقاصد وتفعيلها، إذ أعطى للمقاصد مفهوما عمليا يخرجها من بطون الكتب، وينزلها من أبراجها الدلاليَّة، لتلامس هموم وقضايا الناس، ذلك أن حاجة الأمة اليوم لتفعيل المقاصد، تضاهي حاجتها لدراستها.

وأما في الاصطلاح الفقهي فالمال “هو كل يمكن حيازته ويمكن الانتفاع به على وجه شرعي”[8] وهذا التعريف لم يبتعد كثيرا عن المعاني اللغويَّة السالفة الذكر. وتجدر الإشارة هنا إلى الأهميَّة الكبرى التي يكتسيها المال في شريعة الإسلام، فمن نظر إلى القرآن مستهديا وجد ما لا يسعه حد ولا يحصره عد من الآيات-فضلا عن الأحاديث النبويَّة- التي تثبت قيمة المال ومكانته، وقد عبر عن ذلك الطاهر ابن عاشور بقوله: “وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة الدالة على العنايَّة بمال الأمة وثروتها، والمشيرة إلى أن به قوام أعمالها وقضاء نوائبها، نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتها يقينا بأن للمال في نظر الشريعة حظا لا يستهان به”[9]

أما مصطلح الاستثمار فيعد من المصطلحات الأكثر انتشارا في عالم المال والأعمال، وذلك لكونه أبرز الوسائل المتاحة لنماء المال وتداوله. فالاستثمار مأخوذ من الثمر وهو الزيادة، قال صاحب اللسان: “الثمر حمل الشجر وأنواع المال والولد ثمرة القلب، وأثمر الشجر خرج ثمره، يقال ثمر الله مالك أي كثره، أثمر الرجل كثر ماله”[10]، وبوضوح أكبر، وبألفاظ حديثة قيل: “الاستثمار استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأوليَّة، وإما بطريق غير مباشر كشراء السهم والسندات”[11]. والاستثمار في الشرع لا يخرج عن المعنى اللغوي السابق، فهو مساو له تماما ومتفق معه وبهذا قطع الدكتور فريد واصل[12].

ومما سبق يمكن القول إن استثمار الأموال يعني من الناحية الشرعيَّة استخدام المال قصد نمائه وزيادته وإحيائه فيما أحله الله بكل الوسائل المشروعة.

وحتى من الناحية الاقتصاديَّة لم يخرج التعريف عما ذكر، فالاستثمار عند الاقتصاديين يعني:”امتلاك وشراء مواد الإنتاج وتكوين رؤوس الأموال، لأن المقصود هو الزيادة في حجم رصيد رأس المال أو تحصيل الربح”[13].

إن طبيعة هذه العلاقة (أصل وفرع-وسيلة وغاية-جزء وكل) تجعل إبرام العقود الماليَّة من حيث الصحة والفساد راجعا إلى مدى تحقيق وتأمين المقاصد الشرعيَّة، وفي هذا الصدد يقول ابن عاشور :”وعلى رعي مقاصد الشريعة من التصرفات الماليَّة تجري أحكام الصحة والفساد في جميع العقود في التملكات والمكتسبات”[17].

وأبدأ بصاحب الكليات الأساسيَّة للشريعة الإسلاميَّة الدكتور أحمد الريسوني –اقتصر على استنباطها من القرآن الكريم- إذ جعل من الكليات التشريعيَّة أساسا صاغه كالآتي :”التصرف في الأموال منوط بالحق والعدل”[18]، وأشار إلى أن مرجح التحريم –وما سوى المحرم هنا مباح- في الأموال والتصرفات الماليَّة أمران هما:

تحريم كسب الأموال وتداولها بالباطل، أي بغير وجه حق واستحقاق.

تحريم صرفها واستعمالها واستهلاكها فيما لا نفع فيه ولا طائل تحته أو فيما فيه ضرر أو فساد[19].

ويلخص المغزى العام، والكلمة الفصل في القضيَّة الماليَّة بمقولة تنطوي على الكثير من الحكم النفسيَّة التربويَّة، والأبعاد الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة، وهذا نصها: “فالمغزى العام هو أن الإنسان أوتي الأموال والخيرات لينفقها لا ليمسكها، وليستعملها فيما ينفع غيره، لا ليكون هو عبدا لها مستعمَلا في جمعها وحراستها. بل إن ملكيَّة الإنسان للأموال، إنما هي ملكيَّة حق الاستعمال”[20]. ولا يخفى على قارئ لكتاب الله، فضلا عن دارسِه ومتدبره أن ما انتهى إليه الدكتور الريسوني هو منطوق العديد من الآيات القرآنيَّة، منها: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) الحديد الأيَّة7، وقوله عز وجل في سورة النور(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) الآيَّة 33.

إذن هذا العلامة المقاصدي يجعل لنا قاعدة أو كليَّة ضابطة وموجها للاشتغال على الأموال استثمارا، وطبعا يتفرع عن ذلك من القواعد الشيء الكثير.

وبعده أنتقل إلى مقاصدي آخر وهو الدكتور محماد رفيع في كتابه النظر المقاصدي رؤيَّة تنزيليَّة، حيث نجده يركز على ثلاثة مقاصد كليَّة أصليَّة ينبغي أن توجه المشاريع الاقتصاديَّة والاستثماريَّة، وهي كما يلي[21]:

أولها: القصد الأصلي من خلق الكون أن يكون ظرفا حياتيا لوجود الخلق من الجن والإنس، والمشاريع الاقتصاديَّة العامة التي تجري في هذا الفضاء المسخَّر ينبغي أن تتوافق مع هذا القصد الكبير، حتى لا تفضي إلى اختلالات كونيَّة وبيئيَّة.

ثانيها: القصد الأصلي من خلق الإنسان العبوديَّة لله وحده، فالإنسان من هذه الزاويَّة المقاصديَّة درة الوجود، وحوله يدور، وهو عروسه ومعناه ومغزاه، ما خٌلق ليكون عجلة من عجلات الاقتصاد، ولا عاملا من عوامل الإنتاج، ولا دابة تأكل وتتمتع بلا هدف، وباستبطان هذه الخلفيَّة الفلسفيَّة المقاصديَّة ترقى المشاريع الاستثماريَّة إلى تحقيق الحاجيات الماديَّة المعاشيَّة، والمطالب الإيمانيَّة الأخرويَّة.

ثالثها: المقصد الأصلي من المال يتمثل في تأمين بقاء حياة الإنسان في حده الأدنى، والوسيلة لذلك توظيف القضيَّة الماليَّة والحركة الاستثماريَّة لتلبيَّة الحاجات الضروريَّة لحياة الإنسان على سبيل الوجوب الشرعي.

وهكذا حين تشق العمليَّة الاستثماريَّة طريقها في سياق القصدين الكبيرين من خلق الكون والإنسان، يكون المال والاقتصاد وسيلة لإنتاج مادة الحياة ولإعمار الأرض[22].

بعد الدكتورين الريسوني ورفيع أحط الرحال عند الشيخ ابن عاشور وقولته الشهيرة لدى المقاصديين الاقتصاديين:”والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها”[23]. وبعدها تجده يشرح ويؤصل ويضرب الأمثلة لكل مقصد، وفيما يلي تلخيص لذلك: أما الرواج فيقصد به رحمه الله دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق.

وأما وضوح الأموال فمعناه إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان، ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين.

وأما حفظ الأموال ففي القرآن والسنة تنويه بشأن حفظ المال وحافظه وعظم إثم المعتدي عليه، وإذا كان ذلك شأن مال الأفراد، فحفظ مال الأمة أجل وأعظم.

وأما إثباتها فأراد به رحمه الله تعالى تقررها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة، ومقتضى ذلك أمور ثلاثة:

ومهما يبدو من اختلاف بين الأنظار الثلاثة سواء من أفرد المقاصد في واحدة، أو من ثلثها أو من خمَّس، فإنه لا يعدو أن يكون تعميما أو تخصيصا و تركيبا ودمجا، أو تفريعا وتفكيكا.

ولما كانت آفاق استثمار الأموال وطرقه في الإسلام لا تحدها حدود، حيث تركت لإرادة الإنسان ما دام يقصد تحقيق المقاصد الشرعيَّة السالفة الذكر، ووسيلة هذه الأخيرة احترام أولويات أشير لها في مبحث أول، والالتزام بضوابط خصصت لها المبحث الثاني.

غايات الغايات إفراد الله عز وجل بالعبادة، لذلك ونحن نوجه المال لتحقيق حاجات الإنسان التي تكفل حياته، ينبغي أن ندفعه دفعا إلى القيام بوظيفته، ولا يتم ذلك إلا من خلال عمليتي التعليم والتزكيَّة، وهما من أهم مقاصد البعثة المحمديَّة، وعنهما يقول الدكتور الريسوني:”هذان المقصدان الأساسيان ينصبان بالدرجة الأولى على العنصر البشري وعلى الكيان البشري في ذاته وحالته الذاتيَّة، لأن هذا هو المناط الأول والمنطلق الأول لكل صلاح وإصلاح”[24].

ومن جهة أخرى فقد فطن الفكر الإسلامي مبكرا لأهميَّة إعمال القدرات العقليَّة لاكتساب العلم وإنتاج المعرفة، قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)[25]، ومن شأن هذا أن يؤهل الأفراد لاكتشاف أسرار الكون ونواميسه، والانتفاع من خيراته. بمعنى أدق نحتاج اليوم إلى تنمية اقتصاديَّة، وهذه الأخيرة متوقفة على مدى امتلاكنا “للتكنولوجيا”، هذه الكلمة الساحرة والحل السحري لفظة مركبة قوامها المعدات والمعرفة، فالمعدات تمثل رأس المال بمعناه الفني الاقتصادي، في حين تشمل المعرفة جميع المهارات (إداريَّة، ماليَّة، تسويقيَّة، …) التي تتصل بالإنسان ممثلة لعنصر العمل. ومن ثم اكتسب التعليم والتدريب أهميَّة وأولويَّة في المشاريع الاستثماريَّة في وقتنا الحاضر. وكثيرا ما نقف على هذه الحقيقة في كتابات أهل التخصص، منهم أستاذ الماليَّة والتشريعات الاقتصاديَّة الدكتور خلاف عبد الجابر خلاف إذ يقول:”ومن ثم تعتبر المعرفة بالتعليم والتدريب هي الشق الحاكم لموضوع التكنولوجيا الذي اكتسب ا أهميَّة القصوى في عمليات الإنتاج في وقتنا الحالي”[26].

بهذا الصفة ولتلكم الأهداف المضمَّنة في التعريفين السالفين أنشئت العديد من المصارف في معظم الدول العربيَّة والإسلاميَّة، ورغم ما اكتنف مسيرتها من أعطاب وتحديات، فقد استطاعت أن تقدم بديلا إسلاميا للبنوك التقليديَّة الربويَّة، فأبدعت في الأدوات التمويليَّة والصيغ الاستثماريَّة، وحققت مزايا عدة، منها:

وهكذا يكتسي اعتماد المصارف الإسلاميَّة في العمليَّة الاستثماريَّة أهميَّة قصوى باعتبارها الآليَّة الاقتصاديَّة القادرة على الإسهام في ترويض المال لخدمة مقاصد الشريعة وتحريره من التوظيف القاروني الظالم.

ويضيف الدكتور رفيع أولويات أخر، جمعها في قوله:ّ”ومما يعين على تقصيد الاستثمار، التركيز على التمويل الداخلي، وتشجيع المشاريع الصغرى، وتحريرها من احتكار المشاريع الضخمة ذات الوسائل الماليَّة الضخمة، لأنها مناقضة لمقصد التداول في المال، فهذه هي المقدمة الصحيحة لتنمية حقيقيَّة”[34]

أولا: توفير الأمن الكامل والأمان لكل رؤوس الأموال العامة والخاصة، وتطهير مناخ الاستثمار والادخار، وإصدار التشريعات والقوانين اللازمة لذلك، ومنها إلغاء الضرائب على جميع رؤوس الأموال المدخرة بغرض الإنتاج أو الاستثمار الذي يتعلق بالضروريات.

ثانيا: ابتعاد الدولة والهيئات التابعة لها عن تكوين رؤوس أموال لاستثمارها في السلع الكماليَّة أو الترفيهيَّة، وترك ذلك للأفراد والمؤسسات الخاصة. واقتصارها على المشاريع الاستثماريَّة التي يعجز عنه الأفراد، والعمل على توفير جو المنافسة المؤطَّرة مقاصديا، والاكتفاء برسم السياسات العامة وتكوين البنىة الأساسيَّة.

ثالثا: ربط الثقافة التعليميَّة في جميع مراحلها بأهميَّة الادخار والإنتاج والاستثمار وكيفيَّة الإنفاق والاستهلاك بما لا يضر الفرد أو الجماعة على حد سواء، ويمكن في هذا الصدد أن تلعب وسائل الإعلام دورا مهما، وتغنى بالندوات والمؤتمرات والبحوث، ومن شأن هذا أن يصرف الأنظار عن البرامج التي تضيع الوقت وتضر بالإنتاج وتعطل الشباب وتضر بالكبار والصغار.

رابعا: العمل على توحيد سعر الضريبة الواجبة لصالح الدولة وعدم تنوعها وتعددها على نفس المال الواحد، في أفق التدرج للوصول إلى نظام الإسلام المتعلق بتحصيل الموارد الماليَّة الواجبة للدولة، والتي من بينها الزكاة. والاتجاه إلى تعديل واجبات الدولة الماليَّة بما يوافق نظام الإسلام له أهميَّة كبرى تتجلى في زيادة موارد الدولة، والتخلص من التهرب الضريبي، ثم إمكانيَّة الانتقال من الواجب الكفائي إلى الواجب العيني تلقائيا بأمر من الحاكم المجتهد العادل دون حاجة إلى تشريع جديد.

خامسا: وضع الضمانات القانونيَّة الكافيَّة لحماية المنتجين المحليين من المنافسة الخارجيَّة وتأهيلهم.

سادسا: إنشاء الدوائر القضائيَّة الخاصة للنظر في القضايا التي تتعلق بالإنتاج والاستثمار.

وهذا وسوف يترتب على إغفال هذه الضمانات والضوابط كساد النشاطين الإنتاجي والاستثماري أو توقفهما كليا أو جزئيا، أو اتجاههما إلى ما يفسد على الناس حياتهم وأمنهم الاجتماعي.

وما خدمت القضيَّة الماليَّة بمثل الاستثمار بمفهومه الإسلامي وبعده المقاصدي، فيظفر معه المال والإنسان بالحياة والحيويَّة، فلا تطغى سلطة المال على سلطة البشر، كما لا تطغى سلطة الإنسان بقوة المال فيستعبد البشر ويذل الرجال، وفي هذا هلاك للبشر والمال معا.

** البشير القصري

_____________

مدار الساعة ـ