أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات برلمانيات جامعات وفيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية الموقف شهادة مناسبات مستثمرون جاهات واعراس مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } .. تقسيم حصر ومنتهى البرهان

مدار الساعة,شؤون دينية
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - إن من أبرز الآيات ذات الطابع البرهاني في الاستدلال القرآني ،وخاصة في باب إثبات الوجود الإلهي هو ما نجده في سورة الطور من قول الله تعالى: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصيْطِرُونَ} بالصاد وبالسين.

وهذه الآيات قد حملت كل عناصر البرهان سواء المتفق عليها بديهة أو حسا أو وجدانا، ووردت على صورة تقسيم وحصر برهاني لم يسبق له مثيل في تاريخ البرهنة. ونظرا لوقع هذه الآيات الكريمات في النفوس فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم سيدركون بفطرتهم عظمة هذه الآيات من حيث حسمها البرهاني، وسيعبرون عن هذا الإدراك بأسلوب ذوقي ينم عن شعور وشفافية وجدانية قابلة لإدراك الحقائق عند أدنى ملامسة، فقد روى البخاري عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية “أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون” كاد قلبي أن يطير!.

برهان الخلق بحصر أدلة العقل والشعور

نعم! كاد قلبه أن يطير، وحق له ذلك مادام له صفاء فطري وإحساس نقي بالبرهان وشروطه الموضوعية، إذ أن هذه الآيات قد جمعت الأحكام العقلية بكل أنواعها وتضمنت المعلوم بكل مراتبه وبالتالي عرضت لتقسيم هذه الأحكام بحسب متعلقاتها من المعلومات، ومن ثم كان هذا التقسيم حاصرا ومتضمنا النتيجة في حد ذاته كما عبر عنه ابن تيمية بقوله “فإن هذا التقسيم حاصر، يقول: أم خلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائه العقول، أم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا، فعلم أن لهم خالقا خلقهم، وهو سبحانه ذكر الدليل بصيغة استفهام الانكار ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية في النفوس لا يمكن لأحد إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث ولا يمكنه أن يقول هذا أحدث نفسه” .

والخلق المقصود هنا له مفهوم إبداعي وليس مجرد اختراعي حسب اللفظ الوضعي، بحيث أنه مؤسس على غير مثال سبق كما أن دلالته من القرآن تنفي عنه أن يكون مجرد تشكيل من مادة هيولانية قديمة كما ورد في زعم فلاسفة اليونان ومن تأثر بهم، وهذا المعنى الإبداعي يمكن استخلاصه من خلال قول الله تعالى: “يزيد في الخلق ما يشاء”، بحيث أن الزيادة قد تكون في جوهر وعرض وبالتالي زيادة في مادة وصورة أو مبنى ومعنى، وهذا مبدأ وبديهة ينفي قدم المادة وأعراضها أو اعتبار الخلق مجرد تشكيل لها، ومن هنا فسنجد تفطنا لغويا وذوقيا عند بعض العارفين في صياغة المصطلح العقدي كما بينا ضوابطه على سبيل التصريف أو التفسير وذلك فيما يخص كلمة الاختراع ووصف الخالق سبحانه به، إذ يقول محيي الدين بن العربي الحاتمي في هذا الصدد: “سألني وارد الوقت عن إطلاق الاختراع على الحق تعالى فقلت له، علم الحق بنفسه عين علمه بالعالم إذ لم يزل العالم مشهودا له تعالى وإن اتصف بالعدم ولم يكن العالم مشهودا لنفسه إذ لم يكن موجودا وهذا بحر هلك فيه الناظرون الذين عدموا الكشف وبنسبة لم تزل موجودة، فعلمه لم يزل موجودا وعلمه بنفسه علمه بالعالم فعلمه بالعالم لم يزل موجودا فعلم العالم في حال عدمه وأوجده على صورته في علمه…

وعلى هذا لا يصح في العالم الاختراع ولكن يطلق عليه الاختراع بوجه ما لا من جهة ما تعطيه حقيقة الاختراع فإن ذلك يؤدي إلى نقص في الجناب الإلهي، فالاختراع لا يصح إلا في حق العبد، وذلك أن المخترع على الحقيقة لا يكون مخترعا إلا حتى يخترع مثال ما يريد إبرازه في الوجود نفسه أولا، ثم بعد ذلك تبرزه القوة العملية إلى الوجود الحسي على شكل ما يعلم له مثل ومتى لم يخترع الشيء في نفسه أولا، وإلا فليس بمخترع حقيقة…”

ولتحديد عناصر البرهان في هذه الآيات المعجزات سأكتفي بالتركيز على محتوى الآيتين الأولتين الواردتين في بداية التقسيم الحصري الذي نحن بصدد دراسته والخاص بالبرهنة على وجود الله تعالى بصفة رئيسية، وسأقسم هذه العناصر بحسب تقسيمها في الآيتين وهي:

1- برهان الخلق في القرآن بين حصر العاقل والمعقول:

إن الخطاب في الآية الأولى موجه إلى الإنسان باعتباره ذاتا واعية وباعتباره موضوعا لهذا الوعي وهذا الإدراك ومادة برهانية يتلازم فيها الموضوعي والذاتي تلازما ضروريا وبديهيا. إذ الإنسان يعتبر أرقى المخلوقات في هذا الكون المرئي وهو المحمل بأمانة التكليف دون وقبل سائر المخلوقات، وهذا الخطاب قد ضرب على ثلاثة مصادر للبرهان وهي: البديهة العقلية والشعور الوجداني، والإحساس الجسماني، وقد جمع هذه الأبعاد كلها في الجملة الأولى من الآية الأولى وهي قول الله تعالى “أم خلقوا من غير شئ ” إذ أن هذا الاستفهام الإنكاري طرح الإحساس والشعور معا، في كلمة أو جملة واحدة وهي “أم خلقوا” لأنه لا إنسان يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة الملازمة لوجدان الإنسان ولإحساسه الجسماني بذاته وبغيره منذ كان عدما ثم صار نطفة فجنينا فطفلا إلى أن أصبح كهلا… إلخ..

فمن حيث وجدانه فإن إنيته لا يمكن أن تدعي قدما أو سرمدية لا على مستوى الجنس البشري ككل ولا على مستواه الفردي، إذ امتداد التكاثر عبر التناسل بالعودة إلى التراوج الأولى الذي ترتب عنه هذا التكاثر وهو الشيء نفسه الذي ينطبق على مبدأ النطفة التي منها يتألف جسم الجنين بالتزاوج والانقسام!

وأما من حيث حسه فإن الإنسان لا يثبت ولا يستقر على حال أو عرض لا يتغير ولا يتأرجح بين القوة والضعف والصحة والمرض، والفرح والسرور، والمشي والوقوف… إلخ ومن هذا الإحساس والشعور الوجداني، يتأكد له برهانيا وبدون حدود ولا وسائط صورية أنه مخلوق، وإذ قد تأكد لديه مباشرة أنه مخلوق فيكون بداهة أن هذا الخلق لا يتم إلا بسبب. إذ طبيعة تعقل الإنسان وحكمه الثابت بالبداهة والفطرة تستلزم الاعتراف بأن التغير والانتقال من عدم إلى وجود لا يمكن أن يتم من ذات العدم إلا بسبب مرجح للوجود على العدم، إذ أن العدم ليس شيئا موجودا، ومن هنا كان خطاب البداهة في الاستفهام الإنكاري “أم خلقوا من غير شيء” لأن العدم لا ينتج سوى العدم والسالب إذا أضيف إلى السالب لا ينتج إلا السالب، وبما أن الموجب قد نتج فلا بد وأن هذا الناتج كان بفعل أصل الإيجاب (أو الإيجاد الحقيقي) وليس السالب.

وكلمة “من غير شيء” تشمل معنيين: أحدهما من غير خالق الذي هو المقتضى الضروري الذي لا يتم الخلق إلا به، والثاني: من غير مادة أو وسيلة عامة مخلوقة ويحتوي جنس المخلوقات مما يعني اشتراك الإنسان وباقي الكائنات في بنية واحدة منها يتألف الكون كله، وهذا المعنى صحيح من وجه ووارد، إذ أن الإنسان مخلوق على ظاهره وباطنه، أي جسم وروح، وجسمية الإنسان مصنوعة من طين، وهذا يعني في أحد شقيه المتلازمين أنه يمثل جزء من الكون المادي الظاهري، وحتى لو وقفنا مع المعنى الثاني المفهوم من الآية بالدرجة الأولى فإن المعنى الأول يبقى على حاله من القوة والإلحاح لأنه يكون من الضروري افتقار عملية الخلق إلى الخالق، لأن المسألة هنا متعلقة بالتصرف والتدبير الإرادي الحكيم، والكون المادي ليس له خاصية التصرف ولا الإرادة، بل هو جماد وصم لا يعي ذاته ولا غيره.

بعد تبيين هذه الحقيقة الفطرية والمتمثلة بداهة في استحالة وجود شيء من غير سبب وامتناع الانتقال من العدم إلى الوجود إلا بواسطة موجد، فإن الخطاب بعد ذلك سينتقل باستفهام إنكاري آخر للتدليل على عجز الذات عن خلق نفسها مع البرهنة واعتراف الإنسان ضرورة بحدوثه وذلك في قول الله تعالى: “أم هم الخالقون؟” وعند هذا الدليل تتبين الاستحالة المركبة، والمترتبة من عجز العجز عن الخلق. فإذا كان العدم لا يعطي وجودا فإن الموجود من العدم لا يمكن أن يكسب وجود ذاته بذاته، فإذن يبقى أنه وجد بموجد وأن خلق الذات للذات بمثابة الوجود من لا شيء أو من غير سبب، أي أن الأدنى يوجد الأعلى والأدنى هنا هو العدم، والأعلى هو الوجود، وهذه مناقضة لا تقرها بديهة الأطفال بله العقلاء من الرجال!

إذن فالآية الأولى تضمنت المعلوم بكل مراتبه والأحكام العقلية بكل أقسامها ومتعلقاتها، إذ الخلق يدخل في حكم الجواز والخلق بدون سبب يدخل في حكم الاستحالة وبما أن الخلق موجود فبالضرورة أنه يوجد خالق وهذا يدخل في حكم الوجوب.

2- برهان الخلق في القرآن بين تعجيز الواعي والصم من الكائنات:

بعد هذا الخطاب المركز على الإنسان باعتباره ذاتا وموضوعا وباعتباره الكائن الذي يعي ذاته وغيره. والذي تجتمع في إمداداته المعرفية أدوات البديهة العقلية والوجدان والحس التي بواسطتها يدرك مباشرة وبسرعة أكثر من غيره أنه مخلوق من عدم وأنه قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا”

وانتقالا من هذا التركيز الوجيز والشامل لكل عناصر الوجود وأحكام العقل من خلال النظر في الإنسان سيتوجه الخطاب إليه من جديد لتأسيس مبدأ تعجيزي آخر يقتسمه هذه المرة مع باقي الكائنات الأخرى في أوسع مظاهرها واستقطابها لنظر الإنسان وانبهاره، إنه التركيز على السموات والأرض موضوعا لا ذاتا مخاطبة، والتي قد تكبر في صدور بعض الناس حتى يتوهموا أنها هي التي أوجدتهم وأبدعتهم، فجاء الخطاب استفهاما إنكاريا ورفضا لأي دور للسماوات والأرض في الخلق والإبداع ويتجلى ذلك في قول الله تعالى: “أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون”.

وقد أتى الخطاب هنا مباشرة واقتضاء للتأكيد على أن هذه السموات والأرض مخلوقة مثلها مثل الإنسان، غير أنها دونه مرتبة ووجودا، ولهذا فإن القرآن قد اعتبرها عاجزة شكلا وجوهرا بحيث قد تنزه خطاب الله عن أن يضفي عليها صورة العاقل والمدرك الواعي في هذا البرهان، ولهذا لم يرد التقسيم الحصري بصيغة أم خلقتهم السموات والأرض؟ لأنه لو ورد الخطاب على هذه الصورة لكان مخالفا للبديهة والفطرة ومقتضيات الحس والوجدان. وهذا المنحى في الخطاب الإلهي بمثابة تكريم للإنسان حتى لا يقارن في هذا المقام بالسموات والأرض، ويدخل في حكم الجماد والصم من الأحياء، لأن السموات والأرض تخضع إلى قوانين جبرية ثابتة ليس من طبيعتها التشكيل أو الابتكار أو التبديل أو التغيير إلا في حدود قانونها الذي خلقها الله عليه، بل هي المعرضة أصلا للتغير والحدوث في كل وقت وحين جبرا ودون أن تكون لها إرادة.

الجرم الثقيل مثلا لا يعرف سوى النزول إلى أسفل والغاز لا يعرف سوى الصعود إلى أعلى، والكواكب لا تعرف سوى الدوران حول نفسها أو غيرها وهكذا كل جزئ في هذا العالم مهمته المحدودة في غايتها وبعدها، وهذه الكائنات الجامدات المتركبة منها السموات والأرض بفقدها للإرادة الحرة والوعي تكون أقل درجة من الإنسان، ولهذا فلا يمكنها أن تخلقه بصفته أكثر حيوية وحرية وتطلعا من السموات والأرض، بل إنه يرصد الأرض والسموات ويقدر أبعادها ويحكم على مسافاتها ويحلل عناصرها ويسخرها لصالحه كما أنه يحتويها بتصوره ويحصي أجزاءها قياسا وحسابا عدديا.

والتموضع الظاهري للسموات والأرض يكفي لإدراك أنها مخلوقة بمجرد الحس البسيط، ولهذا فالاستنتاج على أنها مخلوقة لا يحتاج إلى قياس ودوران حول تنقيح العلة من المعلول أو مراقبة التغيرات والحوادث كأعراض دالة بالضرورة على خلق الكون، إذ يكفي إدراك هذا الخلق بمجرد تقيد الأجرام في أحيازها وأماكنها وخضوعها قسرا لقانون لا تدور إلا في إطاره، والبداهة تقول إذا كانت هذه الكواكب فمن مكوكبها، وقد بين الله سبحانه وتعالى خضوع الكون كله للسير القسري، ولابداعه وخلقه بقوله: “والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون”

ومن هنا فحينما عرض الله تعالى على السموات والأرض مسألة التكليف أو الطاعة حسب ما ذهب إليه المفسرون، كان جوابها هو كما يحكيه الله تعالى في قوله: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا” سورة الأحزاب آية 72.

وهذا يعني من حيث الظاهر أن السموات والأرض لها إدراك خاص بها وأنها مع هذا الإدراك ذات إرادة محدودة في القبول أو الرفض لهذا العرض لكنها فضلت أن تختار جانب الإعفاء من التكليف، مع الخضوع بالطاعة المطلقة على سبيل التسخير واختيار عدم الاختيار.

كما قال الله تعالى في حقها “ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين…” سورة فصلت آية10.

وقد كان بإمكان الإنسان أن يكون له نفس الوضع لكنه لخصوصية جعلها الله فيه وهي فوق السموات والأرض، “ونفخنا فيه من روحنا” فضل حمل الأمانة، فكان خطاب التكليف موجها إليه كما أن له القدرة للاستدلال بنفسه وبالسموات والأرض على خالقه سبحانه وتعالى.

بالإضافة إلى هذا الاستنتاج الذي قد يصل إليه كل ذي عقل سليم بمجرد الرؤية الحسية البسيطة، فإن القرآن سيدلل على خلق السموات والأرض تدليلا برهانيا آخر يخاطب به صنفا من الملحدين الذين لا يقرون إلا بالرؤية الحسية الثخينة، وهذا البرهان مفصل بحسب تموضعه في سياقه بالنسبة إلى البرهان الذي نحن بصدده وهو يمثل عين غايته واستنتاجه، إذ القرآن يفسر بعضه بعضا ويتجلى ذلك في قول الله تعالى: ” أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ” .

وفي هذه الآية يبين لنا الله سبحانه وتعالى طبيعة وبنية الكون الأولى حينما خلقها الله سبحانه وتعالى على شكل كتلة واحدة متراصة بالرتق ثم بعد ذلك فتقها وحللها إلى عناصر متنوعة أعراضها مع أنها واحدة في جوهرها عبر عنها بالرتق ثم وأن هذا الحدث لم يكن ذاتيا وإنما هو من عمل خالق متحكم في مادة هذا الكون ومتقلد لزمام أموره. بحيث له كامل التصرف في تغيير أو تثبيت طبيعته ومظاهره. ومن البداهة أن وهمية التغير الذاتي عند الكائنات الصم (الجمادات والسوائل) مقابلة لوهمية الخلق الذاتي، إذ أن كلا من الوهمين مستحيل على كل حال وإذا كان الكائن العاقل الواعي بذاته وبغيره يمكن له أن يتصرف بحرية محدودة ويغير بعض أعراض ذاته وأعراض غيره، فإن الكائن الصم (أو الجامد) لا يستطيع إحداث هذا التغيير إلا بواسطة ذات خارجية غير ذاته تتميز بالتعقل والقصد، وإذا كان العجز موجودا عن مجرد التغيير العرضي فما بالك بالتغيير الجوهري والخلق من عدم إلى وجود، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ورغم وجود الحياة في الكون الجامد أو الصم فليس معناه أن الكون حي بذاته، وإنما الحياة بدورها مخلوقة، ومن عظمة الخالق سبحانه وتعالى أنه جعل من الماء ذي الأصل الجامد والسيولة المركبة، والذي لا يشعر بذاته ولا بغيره وسيلة لحياة غيره، وهذا هو الخلق المركب وهو الذي نصت عليه الآية السابقة في قول الله تعالى “ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي”.

فالتلازم بين الخلق والحياة ضروري وبما أن الإنسان عاجز عن خلق ذاته أو خلق غيره رغم أنه يتصف بالحياة فإن الكون المادي الجامد يكون أعجز عن وهب غيره الحياة لافتقاره إليها بذاته من حيث أصله وتركيبه المبدئي، ومن هنا كان خطاب الله تعالى صريحا في المسألة وبرهانيا كأعلى نموذج في البرهانية حينما قال: “أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الله لغفور رحيم، والله يعلم م ما تسرون وما تعلنون، والذين يدعون من دون الله لايخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون” .

وياله من تعبير معجز وبياني بليغ حينما ربط الله سبحانه وتعالى بين العجز عن الخلق وبين الحياة والموت والشعور، إذ الخلق من خصوصيات الحي بذاته لا بغيره. وإذا كان الإنسان الذي اكتسب كما وضحنا حياته بغيره وأدرك بالضرورة البديهية والحسية والوجدانية الشعورية أنه مخلوق من عدم مع الاعتراف باستحالة خلقه من غير سبب وبعجزه عن خلق ذاته بذاته، فإنه بالضرورة أيضا يكون من الواجب عليه الاعتراف بأن الجماد الميت الذي لا يشعر بذاته ولا بغيره لا يمكن أن ينتج حياة ولا شعورا وبالتالي لا يمكن أن يخلق، بل هو مخلوق مهما عظمت مساحته وتلألأت أنواره وأشعته.

فالكون قد حدث في بنيته الأولى تغيير تميز بالفتق والتحلل إلى عناصر وأعراض وهذا التغير قد أعقبته ومازالت تعقبه تغيرات الواحدة تلو الأخرى، وعند الإقرار بحدوث هذه التغيرات يكون قد ثبت أن الكون لا يملك التحكم في ذاته وبدايته بذاته، وحيث أنه لا يملك التحكم في ذاته وبدايته بذاته فإن هذا التغير الطارئ عليه لا بد وأنه مؤثر غير ذاته، إذ لا يعقل أن يطرأ عليه تغيير بدون مغير مع فقدان خاصية الحياة والشعور والإرادة… إلخ، وإذ أن الكون قابل للتغير فهو مخلوق ممكن الوجود، وبما أنه مخلوق فإنه لا يستطيع أن يخلق نفسه بنفسه، فكان بالضرورة والبديهة العقلية والوجدانية والحسية محتاجا إلى خالق، وهكذا تتحد الكائنات سواء منها العاقلة أو غيرها في صفة واحدة وهي الافتقار إلى الخالق سبحانه وتعالى.

يقول الله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون} صدق الله العظيم. وهو الهادي من يشاء إلى صراطه المستقيم.

مدار الساعة ـ