مدار الساعة - رواية “العطر” هي قصة محاولة الإنسان لأن يكون إلهًا معتمدًا على قدراته الذاتية والإمكانات العلمية، وهي المحاولة التي تؤدي به إلى أن يكون شيطانًا قديرًا لا أكثر.
رواية العطر نقطة تحول مهمة في حياة كاتبها، وفي مسار الكتابة الروائية معًا، فقد حولت السيناريست والكاتب المسرحي الألماني المغمور “باتريك زوسكيند” * إلى أحد أشهر الروائيين في العالم، إذ طُبع منها أكثر من مليونَيْ نسخة بلغات مختلفة، استقبلها القراء والنقاد بشغف وإعجاب متزايديْن، فرسختْ لهذا الاتجاه في الكتابة الواقعية الغرائبية المتكئة على أرضية معلوماتية لنص غير أدبي.
فليس عبثًا أن يبدأ الكاتب روايته هكذا: (في القرن الثامن عشر عاش في فرنسا رجل ينتمي إلى أكثر كائنات تلك الحقبة نبوغًا وشناعة، وهي حقبة لم تكن تفتقر إلى أمثال هذه الكائنات، وقصة هذا الرجل هي ما سنرويه هنا، كان اسمه “جان باتيست غرنوي”، وإذا كان اسمُه اليوم قد طواه النسيان -على نقيض أسماء نوابغ أوْغادٍ آخرين، مثل “دوساد”، “سان جوست”، “فوشيه”، أو “بونابرت” وغيرهم- فذلك بالتأكيد ليس نتيجة أن “غرنوي” -بمقارنته مع هؤلاء الرجال المريبين الأكثر شهرة- يقل عنهم تعاليًا واحتقارًا للبشر ولا أخلاقيةً -باختصارٍ: كُفرًا- وإنما لأن عبقريته وطموحه قد انحصرا في ميدان لا يخلف وراءَه أثرًا في التاريخ، أي في ملكوت الروائح الزائل).
فالكاتب هنا يتحدث بروح المؤرخ، ويستخدم بعض الحيل الأسلوبية ليؤكد هذه السمة، كأن يحكي كل ما سيحدث لبعض شخصيات العمل حتى نهاية حياتهم بعد أن يكون دورُهم الروائي -أي علاقتهم بالبطل- قد انتهى بالفعل.
ومن حيله كذلك أن يستبق بعض الأحداث في حياة البطل، وأن يشير إلى أحداث تاريخية تحدث متزامنة مع أحداث الرواية، كالحروب والاحتفالات الملكية، وانهيار جسور وبناء غيرها… إلخ. كما يستخدم الكاتب كما هائلا من المعلومات التي تخص عالم الروائح ودباغة الجلود، ليجعلها أرضية يتحرك فوقها بناؤه الروائي، حيث يصبح لكل شيء رائحة مميزة، الطفل غير الرجل، والعذراء غير المتزوجة، والخشب بأنواعه، والبحر، والشوارع، والمباني… إلخ.
السبب الثالث: أن القرن الثامن عشر هو العصر الذي وصل فيه إيمان الإنسان بالعلم وبالقدرة الإنسانية إلى ذروته، فلنرجع إلى الأسماء التي استخدمها الكاتب في مفتتح روايته، وإلى أسماء أخرى وردت في الرواية، كـ”فولتير” و”روسو”، هذا العصر الذي أخذ فيه الإنسان يبتعد عن الدين والإيمان بل ويحاربهما اعتمادًا على قدرته الذاتية، هو أنسب لعصر لميلاد “غرنوي” بطل “العطر” الذي يسعى إلى امتلاك العالم والسيطرة عليه معتمدًا على أنفه، وأنفه فقط!.
ثم يفرض نفسه على “بالديني” أشهر عطار في باريس ليعمل مساعدًا له، فينقذه من الإفلاس باختراعه لعطور جديدة، ويتعلم عنده الأصول العلمية للتقطير وصناعة العطور، ويحصل على رخصة كمساعد عطار، وهكذا يصبح أنف “غرنوي” العجيب القادر على التقاط أي رائحة وتحليلها إلى المواد المكونة لها، والقادر على إعادة تركيب هذه الروائح جميعًا في مخيلته الأنفية وإنتاج ما لا يخطر ببال أو بأنف بشر من روائح، يصبح هذا الأنفُ مثـقفًا قادرًا على استخدام كل الوسائل العلمية المتاحة في عالم الروائح في ذلك الوقت، فيزداد إيمانه بنفسه وبقدرته الخاصة، ويسعى بالتالي إلى وضع نظرية فلسفية تجمع شتات القدرات والمعلومات المتاحة له، نظرية “روائحية” بالأحرى، ويعثر على “المبدأ الأعلى الذي يجب على الروائح الأخرى أن تصنف نفسها وفقه.
يعثر عليه في رائحة فتاة عذراء، يجد أن تركيب عناصر رائحتها جعل لها عطرًا “هو من الثراء والتوازن والسحر بحيث أن كل العطور التي سبق له أن شمها، وكل تراكيب الروائح التي ابتدعتها مخيلته بدت له فجأة خواءً جافًا”، فخنقها دون أن ينظر إليها، لم يكن يهمه شكلها، كان كل ما يسعى إليه هو امتلاك عطرها إلى الأبد.
وعلى قمة جبال سنترال بمنطقة “أوفيرج” يعيش “غرنوي” سنوات من السعادة، وحيدًا في كهف، في ملكوت الروائح الخاص به مُتألـهًا، لا يشم رائحة بشر. ثم يكتشف المأساة، أنه هو شخصيا بلا رائحة، فيقرر ترك عالمه، والنزول إلى عالم البشر للعثور على رائحته الخاصة/ذاته المفقودة، ويعمل في ورشة لصناعة العطور بمدينة “غراس”، أحد أهم مراكز صناعة العطور في ذلك الوقت. ويتعلم كيف يحصل على العطر الخاص بالإنسان بأن يلف الضحية بقماش مدهون قادر على امتصاص رائحتها، ثم يقطره بعد ذلك لاستخلاص هذه الرائحة.
وفي “غراس” يقتل الفتيات الخمسَ والعشرين الأجمل في فرنسا، ويصنع من عطورهن عطرًا رائعًا، لكن ينكشف أمره قاتلاً، وفي لحظة إعدامه يصب على نفسه قطرة واحدة من العطر فيجن جنون الجميع.. يعشقونه! ويعرض عليه والد إحدى القتيلات أن يكون ابنه ووريثه.
ويخرج من “غراس”، ليصل إلى “مقبرة الأبرياء” بشارع “أوفير”، مأوى اللصوص والقتلة والعاهرات والجانحين والهاربين من الجيش، أي كل أنواع السفلة، ويصب على نفسه قارورة العطر الثمين، فينسكب عليه الجمال فجأة كنارٍ متأججة. يرَوْنه كملاك، يهجمون عليه، يرمونه أرضًا، ويمزقونه قطعًا صغيرة، يأكلونه حتى يختفي أثره تمامًا..! “كانوا فخورين إلى أقصى حد، فلأول مرة في حياتهم فعلوا شيئًا عن حب”.
يحاول “غرنوي” امتلاك العالم بامتلاك رائحة هذا العالم، غير عابئ بأي إيمان أو أخلاق أو ضمير… إلخ، فكلها كلمات لا معنًى لها عنده، فهو يريد من البشر عندما يشمون رائحته أن يركعوا “كما يركعون أمام بخور الرب المقدس البارد، بمجرد شمهم رائحته، رائحة “غرنوي” الذي يبغى أن يكون رب الروائح كلها”.
وهو عندما ينجح في امتلاك ما يريد يتوجه بالشكر لنفسه، وليس للإله: (أشكرك يا “جان باتيست غرنوي” لأنك على ما أنت عليه)، لذلك فهو ملعون بطول الرواية وعرضها، منذ ولادته يحرص الجميع على عدم ملامسته دون أن يعرفوا السبب، ولا يحب البشر ملامسته لدرجة التهامه إلا عندما يمتلك عطرًا بشريًا، وكل من يستفيد منه بشكلٍ ما تنتهي حياته بالخسران المبين، بداية من مدام “غايار”، حتى الدباغ، و”بالديني” العطار، فالتعاون مع الشيطان قد يكون مفيدًا لقصار النظر على المدى القريب، لكنه في النهاية هو الخسارة بعينها، إن “بالديني” ينسى الصلاة لأول مرة في حياته في الليلة التي يؤوي فيها “غرنوي” في بيته.
أرى أن الكاتب انطلق من مقولة “ماذا يفيد الإنسان لو امتلك العالم وخسر ذاته؟”. وذاته في هذه الرواية هي رائحته، فـ”غرنوي” يمتلك العالم بامتلاك أسرار هذا العالم (رائحته) اعتمادًا على علمه المتمثل في معمل اختباره العجيب (أنفه)، واعتمادًا على إيمان مطلق بقدراته الخاصة، لكنه هو نفسه “غرنوي” بلا رائحة، بلا أخلاق، بلا ارتباط بما هو أسمى. امتلك الإنسانُ العالمَ وخسر ذاته، فوصل إلى ما يعانيه الآن من صراعات وحروب وضياع نفسي وأخلاقي. ورواية “العطر” صرخة تحاول تنبيه هذا الإنسان ليعدل مساره، قبل أن تضيع الإنسانية كلها كما ضاعت الشخصيات التي استفادت من “غرنوي” لفترة قصيرة، ثم خسرت إلى الأبد.