مدار الساعة -لا يروم هذا المقال تشريح مصطلح القرون الوسطى الذي يُؤرِّخ للفترة الممتدة من سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى بداية عصور النهضة الأوروبية، وإنما يهدف إلى الكشف عن السر الذي أَذْكَى جذوة الحضارة العربية الإسلامية في “عصور الظلام” أو “حقبة الجهل” حسب تعبير ريتشارد سوذرن.
كانت أوروبا آنذاك غارقة في بحر من الظلمات وتعاني من انتشار الجهل والفساد والحروب الأهلية وتحارب العلم والعلماء، في حين كانت الحضارة الإسلامية تعيش عصراً ذهبياً تُحسَد عليه.
إن الناظر في الكتابات الغربية المُنْصِفة، يلاحظ بوضوح أن مركزية العلم في الإسلام خلال القرون الوسطى “المظلمة” شغلت بالَ بعض الكتاب الغربيين الجادّين ودفعتهم إلى الكتابة عن الحضارة الإسلامية من أجل إنصافها، ومن هؤلاء المفكر الأمريكي – الألماني فرانز روزنتال (1914-2003)، الذي اكتشف أن كلمة (علم) من أهم “المفاهيم التي سادت في الإسلام، ومنحت الحضارة الإسلامية شكلها ولونها المتميزين”، فألّف كتاباً مهماً حول مفهوم العلم عنوانه: (العلم في تجلٍّ: مفهوم العلم في الإسلام في القرون الوسطى)[1].
تضاريس الكتاب وأهميته
لا جدال في أن هناك كتباً عديدة تعرضت لمفهوم العلم، لكن قارئ كتاب (العلم في تجلٍّ) سيكتشف أنه أمام كتاب غير عادي يحدثنا عن تاريخ العلم في الإسلام، من خلال ثمانية فصول كبرى تتناول: “العلم قبل العلم”، و”العلم في التنزيل”، و”جمع كلمة علم”، و”تعريفات العلم”، و”العلم هو الإسلام”، و”العلم نور”، و”العلم فكر”، و”العلم هو المجتمع”.
ولعل من أبرز الأسئلة التي حاول روزنتال الإجابة عليها: كيف برزت مكانة العلم في الإسلام؟ وكيف واصلت التطور والنمو؟ وما دلالتها التاريخية؟ وللإجابة على تلك الأسئلة، قام روزنتال بنخل مكتبة التراث العربي الإسلامي، وبَذَلَ جهداً جبَّاراً يدفعنا إلى القول إن كتابه يُعدّ من الكتب الشاهدة على الإنجازات الرائدة للحضارة الإسلامية، ويستحق أن يُدرج ضمن فئة الأعمال النفسية.
وللتأكيد على أهمية هذا الكتاب، يمكن أن نُضيف أنه إذا كان عبد الله محمد الدرويش قد قال إن (مقدمة ابن خلدون) تمثل “مَعْلَمَة ثَرَّة بكل طريف”[2]، فإن ديمتري غوتاس قال إنه يجد في كتاب (العلم في تجلٍّ) “رداً من فرانز روزنتال على مقدمة ابن خلدون، إذ أراد الأخير وصف وتحليل ما يحرك تاريخ العالم أو بالأحرى ما يحرك التاريخ الإسلامي، فردَّ روزنتال أن قد تبيًّن أنّ العلم هو المفهوم الذي أذكى جذوة الحضارة الإسلامية”[3].
مفهوم العلم في الشعر والقرآن
من أجل الوقوف على مكانة العلم في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ركز روزنتال في الفصل الأول “العلم قبل العلم” على الجذر (ع ل م)، والشواهد الشعرية، وقد بدا البحث عن الجذر (ع ل م) شاقاً، فأقل ما يمكن أن يُقال عن العلم في الجزيرة العربية قبل الإسلام أنه “كان هناك أساسي أولي للعلم بأنه اكتساب معلومات مادية شيئاً فشيئاً”، أما بخصوص الشعر فقد كانت بينه وبين العلم علاقة وطيدة، حيث إن كلمة (شاعر) كانت تعني في الأصل (عالِم)[4].
بعد الصعوبات والشبهات التي واجهها في الفصل الأول بخصوص البحث عن الجذر (ع ل م)، يفتتح روزنتال الفصل الثاني “العلم في التنزيل” بالإعلان أننا عندما ندنو من القرآن الكريم تلاشى تلك الصعوبات والشبهات، فالذي بين أيدينا الآن (القرآن) يمثّل “هو حقاً نور التاريخ المشرق على الأقل في ما يتعلق بمفهوم العلم”، ففي القرآن يظهر جذر (ع ل م) بمشتقاته (750 مرة)، في حين وردت كلمة (جاهلية) في القرآن أربع مرات فقط، ولعل هذا هو ما دفع روزنتال إلى تحليل الدوافع وراء التوظيف القرآني لكلمة (ع ل م) بمشتقاتها، والتعريج على التنافس المحموم الذي كان موجوداً بين العلم والحكمة وكانت نتيجته إقصاء الحكمة، بسبب “المكانة الرفيعة التي أُسبغت على العلم في القرآن”[5].
مفهوم العلم عند المذاهب
في الفصلين الثالث والرابع، سيتوغل روزنتال أكثر في جغرافية القضايا الاصطلاحية واللغوية والمذهبية المتعلقة بمفهوم العلم، فنجده في الفصل الثالث “جمع كلمة علم” يقول إن كلمة (علوم) الجمع المعروف لكلمة (علم) لم ترد في القرآن ولا في الحديث، كما أنه لا توجد شواهد في شعر ما قبل الإسلام لجمع (العلم) على (علوم)، ثم يشير إلى صعوبة تحديد المراد من كلمة (علم) في الأدبيات الإسلامية، أهو العلم الديني والدنيوي معاً، أم الديني وحده؟
أما في الفصل الرابع “تعريفات العلم”، فيُلفت روزنتال انتباه القارئ إلى المنزلة التي كانت تُحظى بها المصطلحات والأمثال في الإسلام، خاصة الصوفية التي كانت مولعة بانتداب “مصطلحات لمعانٍ ومعانٍ لمصطلحات”، ومما يؤكد ذلك أن الفيلسوف الصوفي ابن سبعين قام بحشد مجموعة من تعريفات العلم في كتابه (بد العارف)، وقدّم الفلاسفة تعريفاً للعلم إلا أنه لم يكن كافياً، في حين لم يرَ فقهاء اللغة حاجة إلى الخوض في هذا الأمر، أما علم الكلام فهو الذي جدّ في طلب تعريفٍ موجزٍ ومَرْضٍ للعلم، فألف الآمدي كتابه العظيم (أبكار الأبكار)، ثم سار على نهج الآمدي علماء ذوو شأن، مثل: البزداوي والصابوني والإيجي، وقد أورد المؤلف في هذا الفصل وحده أكثر من (100) تعريف للعلم في الإسلام[6].
العلم هو الإسلام
يبدو أن روزنتال لم يَخرُج من الفصول الأربعة السابقة إلا بعد أن وقف على الكثير من الأدلة التي تؤكد دور العلم في إذكاء جذوة الحضارة الإسلامية، وتُثبت أن جذر (ع ل م) قد ورد كثيراً في مصادر الإسلام الأساسية (القرآن والحديث)، لذلك نجده يختار للفصل الخامس عنوان (العلم هو الإسلام)، فيتوقف مع مجموعة من الكتب والفصول التي تحدثت عن العلم، مثل: (الموطأ) للإمام مالك، و(جماع العلم) للإمام الشافعي، و(كتاب العلم) لأبي خيثمة، و(صحيح البخاري)، و(صحيح مسلم)، و(كتاب المعرفة) للحلواني، (وإحياء علوم الدين) للغزالي.
ثم ينتقل روزنتال إلى الحديث عن العلاقة بين “العلم والإيمان”، ومفهوم “علم الله”، فيشير إلى العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان لدى مدرسة التزكية، ومواظبة إخوان الصفا على الفصل بين المعنَيَيْن، ثم يناقش مسألة إمكانية فصل الصفة الإلهية للعلم، و”علم الإنسان بالله”، واهتمام المسلمين بالبحث في الفروق بين (ع ل م) و(ع ر ف)، وهنا يقول إن التباحث في البداية كان حول كلمة (علم) دون غيرها، ثم بدأ الجدل يتوسع حول إمكانية إضافة (ع ر ف)، حتى جاء أبو هلال العسكري بتفسير يمنع إضافة لفظة (ع ر ف)، وبعده سيسلك علماء آخرون “السبيل ذاتها في الاستدلال”.
العلم كنور وفكر
يفتتح روزنتال الفصل السادس “العلم نور” بالإشارة إلى رمزية النور في تاريخ البشرية باعتباره “أُسّ الخلاص”، ووروده في القرآن: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، ثم يعرج على تنافس كلمة (علم) مع كلمتي (معرفة) و(يقين) ، ويجد استخدام وصف (عالم) و (عارف) رغم أن (عارف) كانت أعلى مرتبة من (عالم)، إلا أن اهتمام المسلمين سيتركّز بعد ذلك على (العلم).
وفي الفصل السابع “العلم فكر”، يشير روزنتال إلى اطلاع المسلمين على علم المنطق اليوناني ونظرية المعرفة نتيجة حركة الترجمة، إلا أنهم ركّزوا على الحثّ والثناء على العلم، كما فعل الشافعي في (الرسالة)، وفخر الدين الرازي في (المحصول في علم أصول الفقه)، والآمدي في (الإحكام في أصول الأحكام)، وهكذا توصل روزنتال إلى أن “علم الكلام والشريعة كانا ركيزتي الإسلام، ولهما يعود الفضل في خير المجتمع الإسلامي في الدنيا والآخرة”، حيث “وضعا حدود بنية اجتماعية ميّزت المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات”[7].
العلم كمقياس لقيمة المجتمع
في الفصل الثامن والأخير، يحدثنا روزنتال عن ثلاثة محاور: “العلم والعمل والأدب”، و”العلم في المقتطفات الأدبية”، و”الأعمال الأحادية في بيان فضل العلم”، حيث يُشير في المحور الأول إلى هيمنة مفهوم العلم على التعبير عن كفاح الإنسان في سبيل التقدم، وضرورة اقتران العلم بالعمل في الإسلام.
أما في المحور الثاني، فيقول روزنتال إن العلم لم يكن له شأن عظيم في الأعمال الأدبية خلال القرن الثامن، أما في أوائل القرن التاسع فكان هناك مزيج بين الأدب والعلم ممثلاً في (مصنف ابن أبي شيبة)، وفي منتصف القرن التاسع سيظهر بالفعل فصل عن العلم في بعض الكتب، مثل: (عيون الأخبار) لابن قتيبة، و(تلقيح العقول) للمرزباني، وفي أواخر القرن العاشر ستظهر كتب من نوع آخر، مثل: مقامات بديع الزمان الهمذاني، و(أدب الدنيا والدين) للماوردي.
في المحور الثالث، يذهب المؤلف إلى أن هناك غموضاً يلفُّ مكانة العلم في الكتابات الأدبية، ثم يشير إلى كتب، مثل: (طبقات أهل العلم والجهل) المنسوب لواصل ابن عطاء، و(الوفاء في العلم) للمالكي عبد الله بن حبيب، و(فضائل العلم) لابن مُزَيْن (ت: 260 هـ)، ثم يعرّج على بعض كتب أدبيات فن التعليم، مثل: (العالم والمتعلم) للفزاري، و(أحكام المعلمين والمتعلمين) لابن أبي زياد.
أما في المحور الرابع والأخير، فيحاول روزنتال أن يكشف لنا عن أن العلم يمثل قوة اجتماعية حقيقية، فيحدثنا عن خمس نقاط أساسية، هي: “الموقف من الشك”، و”القيود على العلم الفرد”، و”مثالب العلماء”، و”العلم بوصفه حياةً وغذاءً للنفس”، و”العلم وعلاقته بالمال والسلطة”.