بقلم د. مهند العزة
"الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ... هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ ... بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ ... أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ"
هذه الكلمات التي تنطق بالحكمة لشاعر العرب أبو الطيب المتنبي، تنبئ عن إدراك تحلى به كثير من السلف وغاب عن عموم الخلف بأهمية وحيوية الرأي والمنطق بوصفهما دعامة كل قرار وبوصلة المقارنة والاختيار.
المتابع لإدارة أزمة جائحة كورونا في بعض الدول الآسيوية من مثل كوريا الجنوبية وسينغافورة ومعظم دول أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية ما بعد ترامب، يلاحظ أن القول الفصل في ما يتخذه الساسة والمسؤولون من قرارات هو لعلماء الأوبئة والأطباء ومحللي البيانات وخبراء الاقتصاد، وقبل هؤلاء جميعا؛ يظهر الشعب شريكاً رئيساً في اتخاذ القرارات التي سوف يدفع ثمنها ويتحمل آثارها، فقد دأبت حكومات هذه الدول وحكام ولاياتها على التأكيد أن أفراد المجتمع هم أصحاب القرارات وهم سر نجاحها، في تجسيد راقٍ لاحترام المواطن وتحفيزه على حمل مسؤولياته ولعب دوره في مكافحة الوباء.
في المقابل، اختارت دول أخرى بحكم غريزتها الشمولية نهج عسكرة الأزمة من خلال إدارتها بطرق أمنية وكأن الفيروس عدو ظاهر يرفع سلاحه ويعبر الحدود ويجوب الطرقات، ليتراجع دور أهل مكة من الأطباء والعلماء والخبراء، وطبعاً دور الشعوب هو السمع والطاعة، والتزام بيوتهم كلما حانت الساعة، وتنفيذ ما يُتخذ من قرارات، وتلقي اللوم والتوبيخ كلما سُجِل فشل هنا وتقصير هناك.
في الأردن، لن نطرح المطروح من الأسئلة التي ما تزال في رسم الإجابة حول ازدياد الحالات العابرة للحدود في وقت سابق وآلية اتخاذ قرارات تقليص عدد الموظفين والعاملين بنسب مقطوعة مهما كانت مساحة المقار التي يشغلونها ومهما كان عددهم وعدد مراجعيهم وعدم إعطاء كل مسؤول صلاحية اتخاذ القرار وفقاً لمساحة مؤسسته وعدد موظفيه ومراجعيه وطبيعة العمل، ولن نخوض في ما تخوض فيه جموع المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعي من حكمة حظر يوم الجمعة والأدلة الإحصائية والتحليلية التي تبين أنه ساهم في ازدياد حالات الإصابة وكيف يؤدي إغلاق القطاعات فيه إلى خفضها، فهذه كلها أسئلة قد يجد بعضها أجوبةً حتى وإن لم تكن جميعها مقنعة، إلا أن ثمة سؤال ربما لا يجرؤ البعض على طرحه يتعلق بحكمة ومنطق إغلاق كل شيء وحظر النشاطات الاقتصادية والاجتماعية كافةً يوم الجمعة والتصريح بأخطر ما فيه طوال أيام الأسبوع؛ ألا وهو صلاة الجماعة والجمعة التي تشكل بؤراً فتاكة لانتقال العدوى وتفشي الوباء. فكيف لجمع من الناس يتشاركون مواضع القعود والسجود ويتقاربون وربما يتزاحمون ألّا ينقل بعضهم العدوى إلى من حوله؟
قرارات التصدي للجائحة ينبغي أن تكون موجهةً بغاياتها المتمثلة في منع تشكل أي بؤرة من شأنها المساهمة في زيادة عدد حالات الإصابة بالفيروس، تماماً كما حدث في منع الطلاب والطالبات من تلقي حقهم في التعليم الوجاهي لضرورات المحافظة على الصحة العامة والحيلولة دون تكوين بؤر وتجمعات، أما أن يتم تسيس الأزمة لتغدو بعض تدابير مكافحتها انتقائية تجنباً لمواجهة محتملة مع تيارات فكرية متطرفة أو متشددة وميكيافيلية؛ فهذه هي الأزمة الحقة.
الانصياع لضغط التيارات التي تمتشق حسام التكفير أو تلك التي تسعى لتأجيج شعور الجماهير؛هو أخطر من تفشي مرض أو وباء بكثير؛ لأننا عاجلاً أو آجلاً سنتغلب على هذا الأخير بلقاح أو عقار، أما الإرهاب الفكري فهو داء أعيا من يداويه.
إغلاق دور العبادة –مساجد وكنائس- مسألة حتمية تقتضيها متطلبات مكافحة الوباء وتتسق مع النهج العام الذي أفضى إلى إغلاق أبواب المدارس والجامعات والقطاعات الاقتصادية والهيئات والمؤسسات، إلا إذا كان ثمة اعتقاد لدى البعض أن كوفيد بنسخته الأصلية وسلالاته المتحورة رجس من عمل الشيطان لا يقوى على دخول دور العبادة وينصرف حال الاستعاذة منه مع ثلاث جرعات من البصق على اليسار.