مدار الساعة - ارتحل عن دنيانا الأديب الفلسطيني مريد نواف البرغوثي حديثاً، وكان له مع عائلته وزوجته الأديبة المصرية رضوى عاشور وابنه الشاعر المتألق تميم حضور بهيّ وجميل في حياتنا الثقافية، لم أطَّلع على التفاصيل التي سبقت وفاته، ولكنني وقد كنت أتخيل تأثير رحيل رضوى عن حياته، لم أكن مستغرِباً أن يتعجَّل اللحاقَ بها، وأدعو الله أن يديم حضور تميم بطلّته الشعرية المميزة.
لم تكن فكرة الموت غائبةً عن أشعار مريد، فالموت هو الحقيقة العظمى في حياتنا، لكنه عاش حياته بكل ما استطاع من حيوية، وملأها بالشعر والأدب، للموت حضور استثنائي في حياة الفلسطيني، فكثيراً ما تكون حكاية موته هي أهم حكايات حياته، ولعل هذا ما جعل مريداً في إحدى قصائدة يتمنى للفلسطيني موتاً عادياً مثل غيره من البشر: "لا بأس أن نموت والمخدة البيضاء، لا الرصيف تحت خدنا، وكفّنا في كف من نحب، يُحيطنا يأس الطبيب والممرضات، وما لنا سوى رشاقة الوداع، غير عابئين بالأيام، تاركين هذا الكون في أحواله، لعل غيرنا يغيرونها".
إضافة إلى دواوينه الشعرية الاثني عشر، لمُريد رواية حصلت على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية من الجامعة الأمريكية في القاهرة "رأيت رام الله"، وتلك هي نفس الجائزة التي فازت بها رضوى عن ثلاثية غرناطة.
ولمريد أيضاً هذا العمل الأدبي البديع "ولدت هناك.. ولدت هنا"، وهو عمل يستعصي على التصنيف، ويجدر أن يكون رواية، لكن من يقرأها دون أن يعرف تفاصيل كثيرة عن حياة الفلسطينيين لن يصدق أنها سرد لذكريات عاشها الرجل بكل تفاصيلها، وليست نتاج خياله الخصيب، ولن يقتنع إلا بأنه يقرأ رواية من الطراز الحريف جداً، وأما العربي فيجدها سيرة ذاتية، وعلى ما فيها من آلام تظل من الناحية الأدبية سرداً فاتناً لحياة غير عادية، لكنها حياته.
للموت حضور لافت في سردية مريد، أخوه الأكبر منيف رحل موتاً أو اغتيالاً في إحدى محطات القطار في باريس، عاد ليُدفن في عمان، يتساءل مريد لماذا لم يكفن منيف في العلم الفلسطيني؟ لماذا يبقى العَلَم كفناً خاصاً بالزعماء الذين تسببوا في الهزائم؟ هذا هو المؤرخ الفلسطيني أميل توما، مات في بودابست يوم كانت منفى مريد، عاد ليدفن في الناصرة، لفّوه بالعَلَم الفلسطيني، السلطات الإسرائيلية ترفض دخوله بالعلم، العلم الفلسطيني عند الإسرائيليين ممنوع أن يرتفع في الهواء، وممنوع أن يكون كفناً لأحد؟! عشنا مع رضوى في كتابها صرخة كانت تروي حكاية موتها أيضاً، وكان مريد بقربها.
يروي لنا مريد موت قريبه الشاعر حسين البرغوثي، قال له طبيبه وقد استحكم فيه الهزال أنت مصاب بأحد اثنين، إما الإيدز وإما السرطان، رقص فرحاً حين علم أنه مصاب بالسرطان، الإيدز مرض العائلة، ولو كان هو داءه فسيكون قد اقتسمه مع زوجته وطفله، لكن الموت جاء هيناً، بالسرطان وليس الإيدز، رحمه الله ورحمنا جميعاً.
لم يجد في مستشفى رام الله مكاناً، حيث المواليد في الدور العلوي، وجرحى وقتلى الانتفاضة في الطابق السفلي، حين يطلب شيئاً من الممرضة تردّ ألا ترى؟ نحن في حالة طوارئ.
أصبح شخصاً زائداً عن الحاجة، مريض متطفل يمشي نحو مصيره وحده، ثم حكاية موت عرفات، مهما يكن خلافك معه حوصر الرجل وتواطأ على نسيانه حيّاً القريبُ والغريب، تركوه يموت صبراً بالسم الإسرائيلي، دعم الانتفاضة الثانية فاغتيل بطريقة لا تحدث إلا في عصر يشبه القرن الحادي والعشرين.
زاره مريد بصحبة مجموعة كبيرة من أدباء العالم وشعرائه، كثير منهم حصل على جائزة نوبل، جاؤوا يتضامنون معه في حصاره الأخير في المقاطعة، القذائف الإسرائيلية تتساقط على المبنى، تدمره بتلذذ، عرفات -ووهن الموت يحتل جسمه- أتى لضيوفه بصناديق صغيره يفتحها، يخرج من كل صندوق شيئاً ما يُعلقه على قمصان زائريه، دبوس يحمل دائرة معدنية، كتب عليها "بيت لحم 2000″، كانت المناسبة قد فاتت، لم يكن لدى الرجل ما يحتفي به بضيوفه غير هذا، والجود من الموجود.
بعد ذلك أخذوه إلى باريس، كان وهو يُحمل إلى الطائرة كالطفل، كان يلقي بقبلاته في الهواء ذات اليمين وذات الشمال، لم يفلح معه الدواء، مات، كان مريد مدعواً إلى جولة أدبية في الريف الإنجليزي، لم يجرؤ على إكمال جولته مع الأدب يومها.
وُلد مريد في دير غسانة، التي تبعد سبعة وعشرين كيلومتراً عن رام الله، كان ذلك عام 1944، دير غسانة موطن البراغيث، الذين يعتقد مختارهم أنهم شعب الله المختار، يوم احتلها الإسرائيليون قال بعض الناس إنهم سيرحلون بعد سنة، وردّ عليهم آخرون إن البراغيث استوطنوا دير غسانة منذ 500 سنة ولم يرحلوا، القابلة التي ولدته ذهبت لتسجل ولادته عند المختار، وهناك نسيت الاسم الذي يريده له أبوه، قال المختار: أخوه منيف، إذن اسمه نواف، وسُجل في الوثائق الرسمية باسم نواف، ارتحل اليوم نواف وبقي مريد الشاعر الناثر، في كلية الآداب بجامعة القاهرة التقى رضوى، كانا طالبين محترفين، زميلين لم يتجاوزا موضوعات الدراسة وهواية الأدب إلى شيء آخر، بعد التخرج جاء يخطب رضوى، رفض أهلها، لم يلُمْهم، كيف ترتبط ابنتهم بشاب غير مصري مصيره الشخصي مرتبط بمصير فلسطين، التي عجزت دول عن حلها، لكن رضوى لم تفكر لحظة في العودة عن قرارها، ثم أنجبا تميم قبل مبادرة السادات بقليل، وعندما ذهبا لاستخراج شهادة ميلاد لتميم نوى مريد أن يكتب في خانة الجنسية أردني، لأن الوثيقة الرسمية الوحيدة التي يملكها أردنية، لكن رضوى أصرت، اكتب فلسطيني، فيما بعد ذلك أعاقت هذه الكلمة طويلاً حصول تميم على جنسية أمه المصرية أسوة بأبناء المصريات، فهذا الحق لم يكن يشمل الفلسطيني دون بقية البشر.
وعندما وصل تميم إلى سن الخمسة أشهر جاء الأمر بترحيل مريد عن مصر، القيد جمع يده بيد سجانه، رُفع القيد بعدما جلس على كرسي الطائرة، لم يسمحوا لرضوى أن تودّعه، في المطار وفي الطائرة يظن الناس به الظنون، أي نوع من المجرمين هو؟
يصدر قرار بترحيل تميم عن مصر كما رُحل أبوه من قبل، نام تميم في ترحيلات الخليفة، نفس المكان الذي سُجن فيه والده من قبل، ولحسن الحظ رُحل تميم إلى عمان، وتحرك الجميع لعودته، عاد بعد ترحيل أربعة وثلاثين يوماً.
ما ترسّخ لدى مريد من تلك الحادثة هو عجزه عن حماية ابنه، لكنه مع الأيام فجع أكثر، إذ رأى ما هو أكثر إيلاماً مما به، في رحلة لأمسيات شعرية في مراكش ترافق مريد مع جمال الدرة والد الطفل محمد الدرة، المشهد العجيب أنهى حياة الطفل محمد، وترك في جسد أبيه رصاصات، تمكن الأطباء من استخراج بعضها، وبقي منها في جسده ما جعله عاجزاً عن الحركة بمفرده، السلطات المصرية في معبر رفح منعت أخاه من مرافقته، واصطحبت الأخ مخفوراً إلى مطار القاهرة ليسافر إلى المغرب، إجراء يتعرض له معظم المارّين من غزة عبر مصر، تريد السلطات ألا ينام ليلة واحدة في مصر، النظام العربي يحب فلسطين ويكره الفلسطينيين، هكذا تأخر جمال الدرة عن مريد يومين، يقول مريد إن حديث جمال عما حصل له وولده لم يزده ذهولاً، ولكن عضلات وجه جمال ونظرة عينيه ستسكن خيال مريد الشاعر طويلاً، وهو يتحدث عن عجزه عن حماية ابنه الذي كان في حضنه.
رأى مريد بغير قصد جمال وهو يخلع قميصه ذات صباح، كانت ذراعه اليمنى معلقة بكتفه ببقية رفيعة من الجلد، هاجم الخجل جمال الدرة، أما خجل مريد فسيدوم طويلاً!
رحل مريد وهو يسأل نفسه نفس السؤال الذي يسأله حنظلة، طفل ناجي العلي، كما جاء في إحدى قصائده:
أبي يا أبي كيف أوصلتني إلى هنا؟
أبي يا أبي كيف أوصلتنا إلى هنا؟