مدار الساعة - يمتاز التراث الإسلامي الضخم بأنه رحب النطاق وشامل ضروب الخبر النافعة، وفيه نظام الدين الرباني، وألوان العلم المختلفة الراقية، وفيه نظام الحياة السعيدة: اجتماعية وثقافية واقتصادية، وقيمه واسعة الأفق لا تجارى، ويمتاز أيضا بخصيصة فاضلة: وهي رواية الوقائع والأحداث الماضية في عمر التاريخ الإسلامي بطرق متنوعة وبوسائل متاحة لضبط المعلومات في كل عصر ومصر، حتى تم حفظ تراثنا العلمي بنقل جيل عن جيل إلى أن وصلنا وتلقيناه وورثناه عن طريق الرواية المثبتة في الكتب، وهذه الخصيصة المتميزة لم تسجل لأمة قط مثل ما للأمة الإسلامية حتى صارت بها أرقى الأمم.
وجاء في تهذيب اللغة:” ويقال: روَّى فلان فلاناً شعراً إذا رواه له حتى حفظه للرواية عنه”[1]
فقالوا: فلان راوية للأدب والشعر… وراوية الشعر في الجاهلية هو من يحمل شعر الشاعر وينقله ويذيعه، قال النابغة الذبياني:
ألكني يا عيين إليك قولا
ستهديه الرواة إليك عني[2]
ولا الشك أن الرواية الأدبية أصل قائم بذاته وأمر طبيعى في كل عصر وعند كل أمة، وإنه وجدت عند العرب منذ الجاهلية، فكان علماء النسب الجاهليون ومن أدرك منهم الإسلام يأخذون علمهم بالنسب عن شيوخ هذا العلم ممن تقدمهم أو عاصرهم، وكذلك كان رواة الشعر والأخبار الجاهلية.[3]
يقول محمد بن المنكدر:” ما كنا ندعو الرواية إلا رواية الشعر، وما كنا نقول هذا يروي أحاديث الحكمة إلا عالم”[4]
ومما ساعد على رواج الرواية الأدبية محافظة الأمويين على النزعة العربية، وحبهم الظاهر للآثار الأدبية، وتشجعيهم روايتها، ومكافأتهم الأدباء والرواة بسخاء، وأن المسلمين احتاجوا إلى النصوص الأدبية القديمة لما اشتغل علماؤهم بالتفسير، فاهتم الأدباء بجمع النصوص الأدبية لكي يستعينوا بها على فهم ما استغلق عليهم من ألفاظ القرآن وعباراته[5]
ولكن أصالة الرواية في الشعر والأدب تعني “مجرد حفظه ونقله وإنشاده، ولا تتجاوز ذلك إلى ضبطه وتحقيقه والنظر فيه وتمحيصه”[6] واستمر هذا المعنى وهذا المدلول حتى آخر القرن الأول وبداية القرن الثاني بعد نشأة علم الإسناد عند المحدثين وظهوره ونضوجه، وحينه انتقل مفهوم الرواية الأدبية من طور الرواية المجردة ” وأضيف إليها الضبط والإتقان والتحقيق والتمحيص والشرح والتفسير وشيء من الإسناد”[7]
وقد تأثر علماء العربية منذ القرن الثاني ومن بعدهم بمنهج أهل الحديث في بعض الجزئية العلمية، ومن أمثلة ذلك ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: “كنا نختلف إلى أبي العباس المبرد، ونحن أحداث، نكتب عن الرواة ما يروونه من الآداب والأخبار … فانصرفنا يومًا من مجلس أبي العباس المبرد وجلسنا في مجلس نتقابل بما كتبناه ونصحح المجلس الذي شهدناه”[8] “فجميع ما يرويه علماء اللغة والأدب في القرن الثالث والرابع ذو إسناد مرفوع إلى علماء القرن الثاني من أمثال أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية”[9] وغيرهما، بيد أن قضية الإسناد في الرواية الأدبية لم تكن في درجة متانة الرواية الحديثية من حيث المنهج العلمي، ولا ترقى لمستوى الميزان النقدى نظرا لطبيعة الفن الأدبي وعدم صلته بالدين ابتداء، ومن ثم لا يكاد يعدو مفهوم الرواية الأدبية من كونه مجرد التحمل والنقل ولو بأسانيد معللة أو منقطعة.
وكما يدخل في مفهوم الرواية عند المحدثين أيضا، كل ما ينقل عن الصحابة ومن دونهم.
قال السيوطي: “فحقيقة الرواية نقل السنة ونحوها وإسناد ذلك إلى من عزى إليه بتحديث وإخبار وغير ذلك، وشروطها: تحمل راويها لما يرويه بنوع من أنواع التحمل، من سماع أو عرض أو إجازة ونحوها، وأنواعها الاتصال والانقطاع، ونحوهما وأحكامها القبول والرد، وحال الرواة العدالة والجرح وشروطهم في التحمل وفي الأداء “[12]
والرواية عند أهل الحديث تعنى في الواقع “الدين الحنيف” مما يستوجب الإلتزام والتحري في شأنها وأدائها، وقد أدركوا أهميتها منذ الصدر الأول وعنوا بها عناية لا نظير لها وذموا وجرحوا من تساهل أو قصر فيها، ويقولون:” إن هذا العلم دين، فانظروا عن من تأخذونه”[13]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “علم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله سُلَّما إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأُمَّة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لِمَنْ أعظم الله عليه المِنَّة، أهل الإسلام والسُّنَّة، يُفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمُعْوَجِّ والقويم … “[14]
وقد عظم نفع الرواية الحديثية أيما النفع؛ وأفادت فائدة جليلة وخاصة في تحرير الألفاظ النبوية وضبط معانيها وتحقيق صحتها من غيرها.
الحنفية يستخدمون لفظ “ظاهر الرواية” بمعنى جملة من القضايا والمسائل المحررة المنقولة عن أئمة المذهب وخاصة الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وربما يذكر معهم أيضا زفر بن الهذيل وغيره، وقد سجلت تلك المسائل في كتب محمد بن الحسن الخمسة أو الستة على اختلاف في تحديدها وهي المسمى بــ”ظاهر الرواية” في تراثهم.
قال ابن عابدين: “الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة، وكتب ظاهر الرواية كتب محمد الستة: المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والسير الصغير، والجامع الكبير؛ وإنما سميت بظاهر الرواية لأنها رويت عن محمدٍ بروايات الثقات، فهي ثابتةٌ عنه إما متواترة أو مشهورة عنه”[15]
وأما الحنابلة فإنهم يذكرون في كتبهم لفظ ” الروايات المطلقة أو الرواية ” ونحوها ويقصدون بها نصوص الإمام أحمد الصريحة أو المفيدة لها إيماءا وتلميحا، أو ما تم تخريجها على نصوص إمام المذهب.
وتوجد عند المالكية في مدونتهم الفقهية مصطلحة “الرواية”، وإذا قيل: ” فيه روايتان”[17]يعنون بذلك الروايتين عن الإمام مالك.
والحاصل أن كلمة “الرواية” تفيد عموم النقل والأخذ عن الغير، ولكن معناها في التراث الإسلامي متختلفة لاختلاف المشارب والمآرب والمدارس، وأكثر المدارس عناية باستعمالها مدرسة المحدثين، وهم من نوه دورها وقدروها حق التقدير لخدمة الدين وحفظ حياضها.