يخبرنا – صلى الله عليه وسلم – أنّ الإنسان السعيد الذي بعد عن الفتن ووفّق للزوم بيته، وكرّر الجملة ثلاثًا للمبالغة والتأكيد، ويمكن أن يكون التكرار باعتبار أوّل الفتن وآخرها، ومن ابتلي وامتحن بالفتن فصبر على ظلم الناس له، وتحمّل أذاهم ولم يدفع عن نفسه ولم يحاربهم، فهو السعيد الذي حاز السعادة الحقة، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «فواهًا» معناه: التلهُّف، وقد يُوضَع موضعَ الإعجاب بالشيء والاستطابة له، وهو المراد هنا؛ أي: ما أحسنَ وأطيبَ صَبْرَ مَن صَبَرَ عليها! وقد يَرِدُ بمعنى: التوجُّع، وقيل: معناه: فطُوبَى له.
وبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، وإذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله، وهما: الهدى، والرحمة.
والشعور بالرضا يكون في مجالات الحياة كلها، فيرضى الإنسان بحياته كما هي، من أجل صحته النفسية وسعادته، وبهذا يكون أقرب لفظ للسعادة من الألفاظ النظيرة هو الرضا، لما تحمله السعادة من مشاعر الرضا الكبيرة، فإن كان الأمر خيرًا فخيرًا، وإن كان مالا تطيب به النفس؛ فالرضا يمسح كل حزن؛ ويرقى بالعبد لمنازل الصالحين المقربين، فاللهم اجعلنا من السعداء وارزقنا رضاك والجنة.
والصلة: العطف والحنان والرحمة، وصلة الله لعباده رحمته لهم وعطفه بإحسانه، ونعمه عليهم، أو صلته له بأهل ملكوته، والرفيق الأعلى، وقربه منهم -جلّ اسمه- بعظيم منزلته عنده، وشرح صدره لمعرفته.
واختلفوا في الرحم، فقيل: كل ذي رحم محرم. وقيل: وارث. وقيل: هو القريب، سواء كان محرما أم غيره، ووصل الرحم تشريك ذوي القربى في الخيرات، وهو قد يكون بالمال وبالخدمة وبالزيارة ونحوها.
وإن قيل: أليس قد فرغ من الأجل والرزق؟ فالجواب من خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون المراد بالزيادة توسعة الرزق وصحة البدن، فإن الغنى يسمى حياة، والفقر موتا.
الثاني: أن يكتب أجل العبد مائة سنة، ويجعل تزكيته تعمير ثمانين سنة، فإذا وصل رحمه زاده الله في تزكيته فعاش عشرين سنة أخرى.
الثالث: أن هذا التأخير في الأصل مما قد فرغ منه لكنه علق الإنعام به بصلة الرحم، فكأنه كتب أن فلانا يبقى خمسين سنة، فإن وصل رحمه بقي ستين سنة.
الرابع: أن تكون هذه الزيادة في المكتوب، والمكتوب غير المعلوم فما علمه الله -تعالى- من نهاية العمر لا يتغير، وما كتبه قد يمحى ويثبت.
الخامس: أن زيادة الأجل تكون بالبركة فيه وتوفيق صاحبه لفعل الخيرات وبلوغ الأغراض، فنال في قصر العمر ما يناله غيره في طويله.
وخلاصة ذلك كله أن الصلة والبر من أسباب السرور وسعة الرزق والبركة في العمر.
تعد السعادة انعكاسًا لمعدلات تكرار الانفعالات السارة، والبشرى أحد الأمور التي تؤثر على انفعال الإنسان؛ فيشعر بالسعادة، والبشرى لها أحوال كثيرة منها ما يكون في الدنيا، ومنها ما يكون في الآخرة.
ومن الأحاديث التي جاء فيها تبشير المؤمنين، قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ردا على سؤال أبي ذر: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ: نَعَمْ ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ»، رواه مسلم.
ومن الأحاديث التي تحمل معنى البركة: حديث أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «اقْرَؤوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»، رواه مسلم. قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ، هنا يقرر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن قراءة القرآن الكريم تؤدي إلى البركة التي فيها الخير والسعادة، ولا سيما المواظبة على تلاوة سور البقرة وآل عمران والتدبر في معانيها والعمل بما فيها فإنه بركة، أي زيادة ونماء ومنفعة عظيمة، والعبد يشعر ببركة القرآن والأعمال الصالحة في حياته، وما يناله من هذه البركة من توفيق وخير وطمأنينة وزيادة.
وفي هذا الحديث إثبات أن قراءة القرآن من مؤشرات السعادة الضرورية، التي تؤثر على شعور العبد وانفعالاته، ففي قراءة القرآن يجد العبد حلاوة ولذة وانشراح صدرٍ.
وجاءت هذه المعاني فيما رواه ابن عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم- فِينَا فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ، أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَم الْمُؤْمِنُ»، صححه الألباني. والمراد بالجماعة كما ذكر العلماء: السواد الأعظم وما عليه الجمهور من الصحابة والتابعين والسلف، فمن أراد سعة العيش والنعيم في الجنة فعليه بجماعة المسلمين، بتحقيق مبدأ التعاون والإخاء، المبدأ الذي يصنع المجتمع المسلم السعيد.
وفي هذا الحديث تأكيد على تأثير الجانب الاجتماعي في تحقيق سعادة العبد، فالانتماء للجماعة مصدر من مصادر السعادة التي تؤثر إيجابا على انفعالاته وشعوره، وهو مؤشر مهم جدا، وفيه بيان ارتباط السرور والسعادة بالطاعات والخيرات، وهي مؤشرات مهمة أيضا.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ»، وهذا حديث عظيم فيه أن تسهيل العمل الصالح للإنسان خير ومنفعة، وفيه تأكيد أن الأعمال الصالحة مؤشر قوي للشعور بالسعادة.
والحلاوة من الملذات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسعادة، ولها تأثير وجداني على العبد، وفي هذا جاء قول الرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”.
هذا حديث عظيم وأصل من أصول الدين، ومعنى حلاوة الإيمان أي استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك الرسول، وإنما قال مما سواهما ولم يقل ممن ليعم من يعقل ومن لا يعقل، وفي الحديث من السعادة القدر الأكبر؛ فمن أراد التلذذ بحلاوة الإيمان والشعور بالسعادة الحقيقية عليه بثلاث خصال تضمن له السعادة بإذن الله، وهي في مقدمة مؤشرات السعادة:
– أن يكون الله -سبحانه وتعالى-، ورسوله – صلى الله عليه وسلم – أحب شيء في نفسه.
– أن يحب لله، وفي الله، فتكون حياته كلها لله.
– وأن يستشعر نعمة الإيمان، فيكره العودة للكفر كما يكره الوقوع في النار.
ومعنى حب العبد لله: استقامته في طاعته، والتزامه أوامره ونواهيه في كل شيء ولهذا قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضى الرب، فيحب ما أحب ويكره ما كره، وأما المحبة للرسول فيصح منه الميل؛ إذ ميل الإنسان لما يوافقه إما لأنه يستلذه ويستحسنه كالمستلذات بالحواس الظاهرة أو يستلذه بحاسة عقله من المعاني الباطنة الجميلة والأخلاق الرفيعة، أو ميله لمن يحسن إليه وينعم عليه، ويدفع المضار والمكاره عنه، فقد جُبلت النفوس على حب من أحسن إليها، والإنسان إذا رضا أمرا واستحسنه سهل عليه أمره، ولم يشقَّ عليه شيء منه، فكذلك المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان، سهلت عليه طاعات ربه ولذت له، ولم يشق عليه معاناتها.
ومن الأحاديث التي حملت معنى الفرح قول أَنَسٍ – رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لَا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ – صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ»، فيفرح المؤمن أشد الفرح بمعية النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجنة والنجاة من النار، والدرجات متفاوتة، لذلك المراد (المعية في الجنة)، من أحب النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص، فيرجو أن يكون في دار الثواب لا العقاب.
وتحصل للصائم فرحتان، الأولى: «فرحة عند فطره»، وذلك إما سروره بالأكل والشرب؛ فإن نفس الإنسان تفرح بهما بعد الجوع والعطش، وإما سروره بما وُفِّقَ له من إتمام الصوم الموعود عليه الثواب الجزيل، والثانية: «وفرحة عند لقاء ربه» يوم القيامة، وإعطائه جزاءَ صومه، يفرح فرحاً لا يبلغ أحد كنهه.
ومن الأحاديث التي حملت هذا المعنى: قوله – صلى الله عليه وسلم : “حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ”.
واللذة والملذات من الأمور التي قررها الفلاسفة وعلماء النفس في مفهوم السعادة، وهي تنقسم إلى ملذات حسية وملذات معنوية، والملذات المعنوية أرقى من الملذات الحسية المادية.
واللذة الحسية من سعادة الدنيا المشروع للعبد التمتع بها ضمن إطار المباحات، واللذة المعنوية تكون في القلب من خلال معرفة ربه واستقرار الإيمان في قلبه فيتلذذ بعبادته، وفي اللذة المعنوية يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بخلاف الملذات المادية المؤقتة.
ومن الأحاديث التي حملت هذا المعنى: « أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، خرج على الصحابة وعليه أثر غسل، وهو طيب النفس، فظنوا أنه ألم بأهله، فقالوا: يا رسول الله، نراك طيب النفس! قال: أَجَلْ وَالْحَمْدُ لِلهِ، ثم ذِكْرِ الْغِنَى، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ»، وطيب النفس من النعيم؛ لأنه من روح اليقين على القلب وهو النور الوارد الذي قد أشرق، فأراح القلب والنفس من الظلمة والضيق.
لا بأس بالغنى، أي أن الغنى مظنة خطر إلا أنه لا خطر فيه ولا بأس لمن اتقى الله فيه، فيبذله في وجوهه ويشكر نعمة الله فيه، وصحة البدن لمن اتقى الله خير من الغنى؛ فإن صحة البدن قوة على الدين وهي أشد إعانة على التقوى من الغنى، وإذا انضم الغنى إلى الصحة وإلى التقوى، كان ذلك من تمام النعمة كلها في الدارين، وطيب النفس بانشراح الخاطر والقناعة بما أعطي، من النعيم العاجل للعبد، فإن القلب إذا استنار وزالت عنه ظلمة الشهوات والشبهات أدرك النعم حقيقة.
وفي هذا الحديث بيان أن السكينة والراحة والرحمة والغفران والقبول، يكون جزاء لمن اجتمع على ذكر الله -تعالى-، وهذا يؤكد للمسلم أن ذكر الله -تعالى- من أعظم أسباب السعادة في الداريين، ففي الدنيا تسكن روح العبد وتطمئن لذكره -سبحانه-، وفي الآخرة تفوز بالجنة بما نالته من الأجر والمثوبة من ذكر الله في الدنيا.
والكفاف: ما كف به المرء عن الناس، وأغنى به نفسه، أي قدر كفايته لا يشغله ولا يطغيه، فقليل يكفيك خير من كثير يطغيك، والطوبى: الخير والعيش الهنيء، وهي إحدى مظاهر السعادة في السّنّة النبوية، ومن الطرائق للوصول إليها: الاستقامة في دين الله -تعالى-، والقناعة، والكفاف في الرزق.
المصدر : مجلة الفرقان الكويتية