والتلاوة: اتساق الشيء، وانتظامه على استقامةٍ، والترتيل إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة. قال تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل/ 4]، (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [الفرقان/32] أي جودنا تلاوته.
أما القراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل جمع. لا يقال قرأتُ القوم إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد وإذا تُفُوِّهَ به قراءةٌ، والقرآن في الأصل مصدره، نحو: كفرانٍ، وَرُجحانٍ. قال تعالى (إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ .فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة /17 – 18].
وقال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب الله لكونه جامعًا لثمرة كتبه، بل لثمرة جميع العلوم[1]. كما أشار تعالى إليه بقوله: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) [يوسف/ 111]، (تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل / 89]، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر / 28]، (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ) [الإسراء / 106]، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء / 78] أي قرَأَتَهُ..
وهكذا فإن التلاوة والقراءة تتضمنان معرفة قواعد التناسب، وحقوق الحرف، وشكل استقامته ومعيار تلك الاستقامة التي يجب أن يكون عليها اللسان حال النطق القرآني، وما يجب فيها وما لا يجب، إن حق القراءة للقرآن، لا يشبهه – كما تقدم – أي حق لأية قراءة أخرى، فهذه القراءة لها متطلباتها من حيث:
– العلم بالمقروء (قداسته، مكانته، كيفية نزوله، كيفية نطقه …).
– الوعي بمضامينه البنائية ومكوناته الفكرية والأخلاقية والاجتماعية.
– إدراك مقاصده وغاياته في الشهود والحركة.
– تحقيق الاستقامة في اللسان حتى تتحقق في الذهن والتصور والوجدان.
وقد رسم القرآن خارطة لتلاوة النبي للقرآن على المؤمنين وعلى غيرهم بصورة واضحة جلية.
نأخذ أحيانًا وصف القراءة البطيئة. (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا) [الإسراء/ 10].
وأحيانًا وصف الترتيل (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل/ 4].
وأحيانًا وصف التلاوة (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) [العنكبوت /45].
وأحيانًا تكون القراءة تبيانًا وتبينًا (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل / 44]، أو بلاغًا (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة / 67].
والمقصود من هذا كله أن يكون أداء القرآن في غاية الدقة والوضوح، وقد أُثر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه كان إذا قرأ القرآن بيَّن الحروف، ومد الحركات، فإذا قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) كان يمد (الله) ويمد (الرحمن) ويمد (الرحيم)… كانت قراءته مفسرة. وعلى هذا فإن الأحكام الناشئة عن الحرص في قراءة القرآن تحقق أمرين في أدائها[2]:
الأول: دقة الأداء الفصيح، على نحو ما تنطق العرب اللغة الفصحى.
الثاني: المحافظة على بيان كل صوت، بحيث لا يختفي أي من الأصوات في حال الوقف، حرصًا على تمام المعني القرآني، وكما تم تبليغه.
وقد أدى تباعد المسلمين عن زمن نزول القرآن، وما أصاب لسانهم من اللحن في اللغة عامة، والقرآن خاصة، إلى انتباه فريق من علماء القرآن الذين وضعوا أصول علم قراءة القرآن لتجنب اللحن فيه، وعرف هذا العلم بـ”علم التجويد”، وعرفوا التجويد – موضوع هذا العلم- بأنه “إعطاء الحروف حقها ومستحقها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف”.
وعلى ذلك فيعد تعلم “علم التجويد” ضرورة لقراءة القرآن، التي لا يكتمل حق قراءة القرآن إلا بها، وقد عد العلماء” القراءة بغير تجويد لحنًا. واللحن هو كل خلل يطرأ على الألفاظ”[3].
وقد أثبت القرآن هذا الحق بشكل مفصل لا لبس فيه، قال تعالى (وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران/ 79]. وذكر القرطبي في تفسير هذه الآية أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه ثم تلا هذه الآية.[4] .
وقوله تعالى “تَدْرُسُونَ” من التدريس. وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة تعلِّمون بالتشديد من التعليم، واختارها أبو عبيدة لأنها تجمع بين المعنيين (التعليم والتعلم) [5].
وقال – صلى الله عليه وسلم – أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحان أو العقيق، فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين[6] زهراوين[7] يأخذهما بغير إثم بالله، ولا قطع رحم؟ قالوا “كلنا يا رسول الله، قال: فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل”[8].
والمدارسة من الدرس والتعلم والتفقه والتدبر التي تحقق غاية القراءة للقرآن (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)، والتدبير لا يتحقق بالقراءة العبارة للنص القرآني، وإنما يتحقق عبر الوقوف على الدلالات والغايات والمقاصد التي تتضمنها السور والآيات، ولا تتحقق كذلك عبر منهجية جزئية تجزيء القرآن، وإنما عبر رؤية كلية – تأتي عبر الدرس والمدارسة – تدرك:
– غايات القرآن.
– موضوعات، مضامين القرآن الرئيسة والكلية.
– أحكام القرآن وتشريعاته وأخلاقه وعقائده.
– موقف القرآن من المشكلات الإنسانية والحلول التي يقدمها.
– توجيهات بناء الحياة الإنسانية ونظمها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية، ..
– تدرك السنن وحركة التاريخ.
– أحوال النفس وعلاج انحرافها…وهكذا.
ويمكن أن تستخدم في تلك المدارسات القرآنية الوسائل الحديثة والمعاصر في التعلم، وكذلك نظريات علم النفس التي تدرج النمو المعرفي والعقلي والفروق الفردية كعناصر رئيسة في عملية التعلم للفرد، ويمكن أن يتلاقى ذلك مع فكرة “نزول القرآن منجمًا” من أجل تحقيق التدرج في تربية الأمة، وتحقيق مقاصد القرآن فيها.
كما يمكن الاستفادة – أيضًا – مما أنتجه العقل المسلم حول القرآن مثل:
1- المعاجم القرآنية، للتعرف على ما أشكل من الألفاظ القرآنية، ومواضع الكلمات ومعانيها بحسب السياقات، وهكذا..[9]
2- التفاسير القرآنية، بغير أن تكون ذاتها صارفة عن التعامل الراشد مع القرآن، أي أنها لا تغني عن اكتشافات ذاتية للدارسين في القرآن.
3- الاتجاهات الجديدة في التعامل مع القرآن في القرنين الماضيين، والتي كتبت تحت عنوان “كيف نتعامل مع القرآن” كما يمكن لهذه الكتابات الرائدة –أيضًا- أن تكون مصدرًا مهمًا وملهمًا للمؤسسات التربوية في تعلم ودرس القرآن، وحتى على المستوى الفردي من خلال القراءة الحرة.
ومن هذه الكتابات الرائدة والمُعينة على درس القرآن ومدارسته:
1- تفسير جزء عم -محمد عبده.
2- كيف نتعامل مع القرآن -محمد الغزالي.
3- كيف نتعامل مع القرآن العظيم- يوسف القرضاوي.
4- التفسير البياني – عائشة عبد الرحمن
5- مفاهيم قرآنية – السيد عمر.
6- مجالس القرآن – فريد الأنصاري.. وغيرها.
ويطرح الأنصاري في “مجالس القرآن” ثلاث خطوات منهجية لتدارس القرآن وهي: [10]
1. تلاوة القرآن بمنهج التلقي: أي استقبال القلب للوحي، إما على سبيل النبوءة – كما كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – أو على سبيل الذكر، أي يقع القرآن على موطن حالة القلب.
2. التعلم والتعلم بمنهج التدارس.
3. التزكية بمنهج التدبر الذي يحيل الإنسان على (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون.
والمؤمنون مكلفون بحسب رسالتهم ووظيفتهم الشهودية (لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) أن يبلغوا “كلمات الله” التي آمنوا بها إلى “الناس” كل الناس.
وهذا البلاغ شرطه أن يكون مبينًا (البلاغ المبين) وهو شرط: علم ومعرفة بالمبلَغ عنه وتطبيقٍ وعملٍ بتوجيهاته وأوامره، ولا يتحقق البلاغ المبين – أيضًا – إلا إذا أخذت الأمة موقعها الحضاري بين الأمم، فلا بلاغ لضعيف لأنه لن يسمعه أحد. ومن ثم فعلى المسلم أن يرتفع إلى مستوى الحضارة المعاصرة – على الأقل – ليستطيع الوفاء بواجبه نحو “القرآن” بالدعوة إليه وإبلاغه إلى الناس كافة.
وهو ما يتطلب – أيضًا – معرفة الإنسان المعاصر معرفة معمقة، وجوانب التأثير في بنائه وتكوينه التربوي، والارتقاء بمستوى الخطاب القرآني المقدم له، وذلك عن طريق درس العلوم الاجتماعية والتربوية التي مكنت من سبر أغوار كثير من جوانب الإنسان وعوامل التأثير فيه، وكذلك البحث في واقعية القرآن وعقلانيته إزاء المشكلات المعاصرة التي أنتجتها الحضارة الحديثة، وأفقدت الإنسان فيها إنسانيته ومعنوياته.
ودوائر التطبيق ثلاث:
الدائرة الأولى : دائرة الفرد ذاته.
والدائرة الثانية: دائرة المسؤولية الجماعية للفرد (الأسرة).
والدائرة الثالثة : دائرة المجتمع والدولة. ولكل دائرة من هذه الدوائر شكل ومضمون لتطبيق القرآن والعمل به.[11]
هذه بعض حقوق القرآن الأساسية التي يجب أن يتم الترويج لها في الواقع الإسلامي، ودفع مؤسسات التربية والتعليم والثقافة والإعلام والدعوة إلى تبني قيم هذه الحقوق، بما يَّمكِن من عودة القرآن واستعادته كدافع للبناء الحضاري للمجتمعات الإسلامية المعاصرة.