اليوم تبدأ الجولة الثانية من المواجهة بين النواب والحكومة، من خلال مناقشة وإقرار أو رفض مشروع قانون الموازنة العامة للعام الجاري ٢٠٢١.
معظم النواب في خطاب الثقة بالحكومة الجديدة، أجلوا الحديث المتعلق بطلبات مناطقهم إلى حين مناقشة الموازنة.
مناقشة موازنة الدولة استحقاق دستوري، لانها في الاساس قانون لا يُقر ولا يصبح نافذاً اذا لم يوافق عليه مجلس الامة بشقيه الاعيان والنواب، لكن اشتراط تلبية الطلبات المناطقية للموافقة على الموازنة مسألة تحتاج الى مراجعة في ظل وجود مجالس اللامركزية التي تم انشاؤها لتتولى تنفيذ المشاريع الخدمية التي تحتاجها المدن والبلدات في محافظات المملكة انطلاقاً من مبدأ اهل مكة ادرى بشعابها. نظرياً
يعني هذا الكلام ان السادة النواب لم يعد لهم علاقة باحتياجات مدنهم وقراهم التي ارسلتهم الى قبة البرلمان، بعد ان تم نقل هذه الصلاحية والمسؤولية لاعضاء مجالس اللامركزية المحلية الذين انتخبوا ايضا من قبل نفس القواعد في نفس المدن والقرى التي انتخبت النواب.
فكرة مجالس اللامركزية استندت عند اقرارها على تفريغ النواب لمهمة الرقابة والتشريع وجعل موضوع الخدمات التي تحتاجها المناطق من طرق ومدارس ومستشفيات ونقل وشبكات الماء والكهرباء والهاتف وغيرها من مكونات البنية التحتية من اختصاص مجالس اللامركزية التي تخصص لها الحكومة موازنات مستقلة تتصرف بها باستقلالية تامة في ضوء اولويات تضعها دون تدخل من اي جهة حكومية.
بعد ثلاث سنوات من التجربة لا بُد من مراجعة مدى نجاح الفكرة واستعراض الايجابيات والسلبيات التي رافقت مسيرة اللامركزية، وهل فعلاً لبت مجالس اللامركزية حاجات المجتمعات المحلية وانعكس وجودها بفوائد لم يكن بالامكان الحصول عليها لو بقي الامر منوطاً باعضاء مجلس النواب الذين كان جزءا من عملهم ملاحقة الوزارات لتنفيذ المشاريع الخدمية لمناطقهم؟
للاجابة على السؤال لا بُد من إعادة النظر بالفكرة من اساسها بافتراض ان اللجوء اليها لم يكن بقصد تحجيم النواب والتخلص من ازعاج مراجعاتهم، بل بهدف خدمة الناس واشراكهم في القرار الخاص بهم وانهاء معاناتهم من الروتين الحكومي الذي كان يرهقهم للحصول على الموافقات اللازمة لتنفيذ مشاريع حيوية لهم.
في دول العالم مجالس اللامركزية مكتفية مالياً لانها تعتمد في دخلها على الموارد المتأتية من النشاطات الصناعية والتجارية والسياحية الموجودة على ارضها، اما في حالتنا الاردنية فلا دخل لهذه المجالس التي لا يتجاوز الايراد الذاتي لبعضها عُشر ما يدفعه احد المولات التجارية من ضرائب ورسوم لخزينة الدولة، وفي ظل انعدام الدخل الذاتي تعتمد المجالس على ما تخصصه الحكومة المركزية لها من الموازنة العامة سنويا بعد ان يقدم كل مجلس ما يحتاجه من موازنة لتنفيذ المشاريع التي يراها ضرورية.
وهنا نعود الى النقطة التي تنسف الفكرة من اساسها، حيث صلاحية الموافقة او الرفض ما زالت بيد وزير المالية الذي تتجمع على مكتبه طلبات كل المجالس وهو الذي يقرر الاستجابة في ضوء اقتناعه باهمية المشاريع المطلوب رصد مخصصات لها.
ونتيجة لهذه الآلية التي تحكمها بالنهاية الوفرة او الشحة في المال العام لدى الحكومة، رأينا كيف كان رؤساء مجالس اللامركزية يشكون من عدم تمكنهم من انجاز مشاريع مهمة بسبب تخفيض الموازنات الخاصة بهم.
هذه الوضعية تشي بشيء واحد الا وهو عدم قدرة مجالس اللامركزية على تحقيق الاهداف التي انشئت من اجلها وهو ما يؤدي بالنتيجة الى بقاء اللجوء للنواب كاصحاب سلطة على تماس دائم مع الحكومة لديهم القدرة على ايصال طلبات المواطنين والضغط من اجل تنفيذها.
ان استمرار النواب بالقيام بواجب خدمة المناطق والقواعد حق لهم يفوق في اهميته واجب الرقابة والتشريع في نظر الكثيرين والمواطن الذي يهتم بما يدخل جيبه لا ما يخرج منها، ما زال يرى بالنائب سلطة تحقق له مطالبه الشخصية على عكس اعضاء اللامركزية الذين لا يستجيبون للطلبات الخاصة لانها خارج اختصاصاتهم وسلطاتهم وقدراتهم ايضاً.
عندما تتعرض الدول والشعوب الى ضائقة تعم في شدتها الجميع يتحول الاهتمام نحو النجاة الشخصية، فيتقدم الخاص على العام، وهذا الاحساس يجتاح النخب وغير النخب، فيندفع المواطنون الى الاهتمام بشؤون حياتهم وحياة اسرهم والانصراف عن الشؤون العامة التي لا يعود لها متسع من التفكير، فرتق ثقوب الجيوب اهم بكثير من اتساع ثقب الاوزون.
وفي ضوء اسلوب ادارة الدولة الذي لم يتغير منذ عقود لا نتوقع تغييراً في عمل السلطات المنتخبة والمعينة ولا في طريقة تعاطي المواطنين مع دولتهم ونظرتهم اليها.
الرأي