مدار الساعة - كان دونالد ترامب قبل يوم 6 يناير/كانون الثاني، يُمني نفسه بطريقة أو بأخرى بنجاح أنصاره في إبقائه بالبيت الأبيض، لكن اقتحام الكونغرس في ذلك اليوم ربما يكون قد تسبب في تغيير عالم ترامب بالكامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ففي ذلك اليوم كانت الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ للتصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة هي هدف ترامب وحيلته الأخيرة. فمن ناحية طالب نائبه مايك بنس، الذي ترأس الجلسة، بالاعتراض على نتيجة الانتخابات ورفض التصديق عليها متضامناً مع المشرعين الجمهوريين الذين كانوا يقفون في صفّ الرئيس المهزوم، ومن ناحية أخرى كان قد دعا أنصاره للتواجد في واشنطن العاصمة في ذلك اليوم بغرض "استرداد بلادنا".
وفي البداية، سارت الخطة كما تمناها ترامب -باستثناء رفض بنس الانصياع لمطلب رئيسه غير القانوني- واعترض مشرعون جمهوريون على نتيجة الانتخابات في ولاية أريزونا، وهو ما أدى إلى رفع الجلسة وانتقال أعضاء مجلس النواب إلى مقر مجلسهم، وكذلك الأمر لأعضاء مجلس الشيوخ لمناقشة الاعتراض على نتيجة أريزونا، ومن ثم التصويت.
ورغم سيطرة الأمن بعد وصول التعزيزات من الحرس الوطني وشرطة ولايتي واشنطن ونيويورك على الموقف، وعودة المشرعين المذعورين إلى الكونغرس، واستئناف جلسة التصديق على نتيجة الانتخابات، وإعلان فوز بايدن وتبخّر أوهام ترامب وأنصاره في الانقلاب على نتيجة الانتخابات التي حسمت بفارق ضخم - أكثر من 7 ملايين صوت في التصويت الشعبي وبنتيجة 306 مقابل 232 في المجمع الانتخابي، فإن الفاتورة التي تحمّلها ترامب وسوف يواصل تحمّلها نتيجة لأحداث ذلك اليوم ستتسبب في تغيير عالمه بصورة لم يكن يتخيلها.
ففي المرة الأولى التي جرى فيها التصويت على لائحة الاتهام بحق ترامب بسبب فضيحة أوكرانيا أواخر عام 2019، لم يصوّت أي نائب جمهوري لصالح القرار.
فقبل كارثة اقتحام الكونغرس، كان من المتوقع أن يغادر ترامب البيت الأبيض كرئيس سابق يحظى بدعم شبه مطلق داخل الحزب الجمهوري واحتمالات ترشحه مرة أخرى للرئاسة عام 2024 قائمة وبقوة، لكن يمكن القول إن كل ذلك تبخّر الآن؛ فمن ناحية سيتم التصويت على منعه من الترشح مرة أخرى حال تمت إدانته في مجلس الشيوخ، وهو احتمال أصبح وارداً في ظل موقف زعيم الأقلية الجمهورية في المجلس ميتش ماكونيل، الذي ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال الموافقة على الإدانة، نقلاً عن مصادر مقربة منه.
ومن ناحية أخرى تغيّرت النظرة لترامب تماماً داخل الحزب الجمهوري بعد اقتحام الكونغرس، وأصبح الهدف الآن الابتعاد عن الرجل بقدر الإمكان، سعياً وراء استعادة الأغلبية في مجلس الشيوخ في أقرب انتخابات، أي عام 2022، وهو ما يعني أن النجم الصاعد ورمز الحزب منذ إعلانه الترشح للرئاسة في 2015 وحتى يوم "الأربعاء الأسود"، وهو وصف اقتحام الكونغرس، أصبح الآن منبوذاً ولا مكان له داخل الحزب.
ومرة أخرى تتأكد مقولة إن حياة ترامب قبل اقتحام الكونغرس لن تكون كما كانت قبل اقتحامه. وإذا كان صحيحاً من الناحية القانونية أن ترامب غير مُهدد بقضاء عقوبة تأديبية، أو بمعنى أدق دخول السجن حال إدانته في مجلس الشيوخ، يظل احتمال مقاضاته احتمالاً قائماً بسبب عدد متنوع من القضايا التي يواجهها بالفعل، وكانت مؤجلة أو مجمدة بسبب حصانته كرئيس للبلاد.
لكن تلك القوة التي يتباهى بها ترامب تعرَّضت بالفعل لتهديد غير مسبوق بعد ذلك اليوم الفاصل في حياته، وهو يوم اقتحام الكونغرس، حيث سعت كثير من الشركات للنأي بنفسها عنه، وبدأت العديد منها بالفعل في مقاطعة أعماله التجارية، بحسب تقرير لمجلة Newsweek الأمريكية.
وتتركز ثروة ترامب في 6 مبانٍ داخل وحول وسط مانهاتن في مدينة نيويورك، كما يمتلك ملاعب غولف، وجاءت أولى الضربات بشكل مباشر بعد أن قرر اتحاد الغولف المحترف في أمريكا عدم إقامة بطولة 2022 PGA في نادي ترامب الوطني للغولف في بيدمينستر، بولاية نيوجيرسي الأمريكية كما كان معتاداً سابقاً. وصرَّح رئيس PGA الأمريكية جيم ريتشرسون: "لقد صوت مجلس إدارة الاتحاد لإنهاء الاتفاقية للعب بطولة 2022 PGA في ترامب بيدمينستر".
وهذه نماذج رصدت تقارير إعلامية وغيرها الكثير تمثل تهديداً مباشراً لأغلى ما يمتلكه ترامب وهي ثروته، وأفادت تقارير إعلامية نقلاً عن مصادر قريبة من ترامب أن مقطع الفيديو الذي صوره ترامب أمس الأربعاء تزامناً مع جلسة النواب للتصويت مع إجراءات عزله وأدان فيه اقتحام الكونغرس، جاء بعد إلحاح من صهره ومستشاره جاريد كوشنر، ولم يقتنع ترامب إلا بعد أن شرح له كوشنر خطورة الموقف على أعماله التجارية.
خلاصة القول هنا أن حياة ترامب بعد اقتحام الكونغرس قد اختلفت بشكل درامي عما كانت عليه قبل ذلك اليوم، بل وحتى قبل أن يدخل عالم السياسة ويصبح رئيساً للولايات المتحدة، فمن الشهرة والأضواء التي يعشقها إلى العزلة التامة التي فرضتها عليه منصات التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وجوجل، ومن رئيس أو حتى رئيس سابق، يمثل التعامل مع شركاته وعلامته التجارية مطمعاً للجميع، إلى علامة تجارية منبوذة يسعى الجميع للابتعاد عنها قدر المستطاع، وما يحمله المستقبل لترامب قد يكون أسوأ كثيراً مما تكشّف حتى الآن.
رصد