مدار الساعة - أولى العلماء صحيح البخاري عناية خاصة أكثر من كتب السنة الأخرى وذلك لسببين، الأول: لكونه أعظم كتاب البشر صحة وتوثيقا.
الثاني: لما أودعه فيه المؤلف من دقائق الفقه والاستنباط.
ولا يكاد يحصى كم المشتغلين بهذا الكنز، حتى أوصل بعضهم عدد ما دار في فلكه من الخدمة والعناية إلى ما يناهز أربعمائة (400) مؤلفا[1]، ما بين الشرح وغيره، إلا أن شروحه متنوعة ومتفاوتة، ومن أهم شروحه المطولة ما حواه الكتابان العظيمان: فتح الباري لابن رجب الحنبلي، وفتح الباري لابن حجر الشافعي، وقد قام عدد من الباحثين بدراسة مقارنة بين الكتابين، نلخصها في هذا الطرح.
وجميع مصنفات الحافظ فريدة في أبوابها ومباركة؛ لاعتدال آرائه وإنصافه للحق ونزاهة منهجه رحمه الله تعالى.
وقد سمى الحافظ شرحه لصحيح البخاري الذى شرع فيه بــ ( فتح الباري) ثم لم يقدر له إتمامه، وإنما وصل إلى كتاب الجنائز مع فقدان بعض الأحاديث المشروحة أيضا، حيث لو قدر له إتمامه لصدقت فيه مقولة الإمام الشوكاني “لا هجرة بعد الفتح” ومع ذلك وفي ما بقية بين أيدنا حوى لنا كثيرا من علم السلف الذى لا يستغنى عنه.
قال الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله- عن فتح الباري:” وشرح -يعني ابن رجب- قطعة من (صحيح) البخاري إلى كتاب الجنائز. وهي من عجائب الدهر. ولو كمل كان من العجائب”[3] .
وقد حرص ابن رجب في هذا الكتاب –كعادته- على شرح الحديث بالحديث وبآثار السلف معتنيا بذكر الأسانيد والأحكام الفقهية المحررة، مما يجعل النفوس مطمئنة إلى ما في طيات الكتاب أكثر من غيره من الشروح.
وكتابه فتح الباري هو المعني أيضا عند الإطلاق وخاصة عند غير المتخصيصين، علما بأن السخاوي نقل عن ابن حجر عدم اطلاعه على فتح الباري لابن رجب، ولعله يقصد عدم إطلاعه على جميع الكتاب وإلا وقد صرح الحافظ بالنقل عنه في ثلاثة مواضع في الفتح، وعلى كل حال فكتاب الفتح لابن حجر كتاب مبارك ومتميز، ورزق بالقبول منذ عهد مؤلفه حتى يومنا هذا، وقضى الحافظ في تأليفه خمسا وعشرين سنة وختمه بوليمة عظيمة مشهودة، واعتنى بشرح جميع أحاديث الكتاب من أوله إلى آخره بنفس واحد، وبالمنهج المتوازن في الشرح، وبين دفتيه تعليقات نفيسة، وحل مشكلات، وأمانة علمية، ولذا عده العلماء عمدة لا يستغنى عنه، وأن به قضى الدين الذى على الأمة فيما يتعلق بشرح صحيح البخاري.
أولا: الصناعة الحديثية
قال ابن حجر:” لم أقف عليه موصولا إلا أن ابن المنذر قد ذكر نحوه عن الحسن”[5] .
وقال ابن رجب:” خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر فى كتاب الشافي”[6] وكأثر مروي عن ابن عمر وأبو هريرة أنهما ” يخرجان إلى الى السوق فى أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما”.
ثانيا: المسائل الفقهية
ثم امتاز ابن رجب على ابن حجر – في غير ما سبق – أنه سار على غرار سلف الأمة في تقرير مسائل العقيدة، ولا يقرر إلا ما هو صحيح الاعتقاد، بينما أخطأ ابن حجر في بعض المسائل العقائدية المتعلقة بالصفات وذهب فيها وفق مذهب الأشاعرة، ولكن هذه المخالفة لا تسوغ الحمل على ابن حجر والحكم عليه بالبدع وإخراجه من أهل السنة وإحراق كتبه، بل لم يزل الناس -من أهل العلم والطلبة – عالة على كتبه وبخاصة فتح الباري في فهم صحيح البخاري.