مدار الساعة - لم يشهد الاقتصاد العالمي أزمة مثل تلك التي تسبب فيها انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19»، حيث طالت التداعيات كافة مناحي الاقتصاد وقدرت الخسائر جراء ذلك بنحو 28 تريليون دولار، حسبما ذكر صندوق النقد الدولي في آخر إحصاءاته في شهر أكتوبر الماضي، فضلاً عن تباطؤ معدلات نموه، وضرب مقومات العرض والطلب، بسبب فرض قيود الحجر الصحي وحالة الذعر لدى المستهلك، في ظل التوقعات باستمرار آثار تلك الأزمة لسنوات عديدة.
لكن المثير للقلق هو مخاوف استمرار تلك التداعيات لفترة ليست بالقليلة، وهو ما قالته المستشارة الاقتصادية في صندوق النقد، جيتا جوبيناث، حيث رجحت استمرار الضغوطات لفترة طويلة وسط وجود درجة مرتفعة من الشكوك في ظل وجود توقعات بحدوث موجات أخرى من العدوى بالفيروس، ما سيؤدي إلى زيادة الإنفاق على مكافحة الوباء وتقييد أسعار الفائدة والظروف المالية ما يجعل الديون العالمية تتفاقم أكثر وأكثر.
وتوقع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن تخسر أغلب اقتصادات العالم حوالي 2.4% من ناتجها المحلي على مدار 2020، ومن المرجح أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 4% هذا العام، كما تراجع حجم التجارة العالمي بنسبة 20% وتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 40% وهبطت أحجام التحويلات بمقدار 100 مليار دولار.
وبسبب تلك الأزمة تأثرت قطاعات كبرى كالسياحة والطاقة وقطاع النقل الجوي، والذي حذّر الاتحاد الدولي للنقل الجوي «إياتا» في تقرير من تفاقم الأضرار التي ألحقت به بسبب الفيروس وتداعياته والمتمثلة في توقف الحركة الجوية، متوقعاً أن تخسر منطقة الشرق الأوسط نحو 1.7 مليون وظيفة في قطاع النقل الجوي والقطاعات المرتبطة به خلال عام 2020، ويمثل هذا الرقم نحو نصف عدد الوظائف المرتبطة بقطاع النقل الجوي في المنطقة والبالغ عددها 3.3 ملايين.
تحفيزات
وبحسب ما ذكره صندوق النقد الدولي، فإن التدابير المالية التي أعلنتها العديد من حكومات العالم والتي وصلت إلى 20 تريليون دولار ساعدت على تخفيف التأثيرات السيئة التي تعرضت لها الشركات والعمال بسبب الوباء الذي تسبب في إغلاق المصانع والشركات معظم الشهور الماضية وحظر حركة الناس ما أدى إلى هبوط الطلب وضعف الحركة الشرائية، لكنها في الوقت نفسه سببت أضراراً مضاعفة.
فقد دفعت الأزمة إلى تفاقم المديونيات وعدم الثقة في عملات دول كبرى بالعالم وهي الإشكالية الكبرى التي ستظهر بصورة جلية خلال أعوام 2021 و2022 وسط لجوء جميع البنوك المركزية إلى تخفيض نسب الفائدة لتحفيز الاقتصاد الذي يعاني تباطؤاً بسبب كورونا.
فالدول حتى لا تتوقف تروس اقتصادها قامت بضخ مزيد من السيولة في الأسواق وهو الأمر الذي سيخلق تضخماً وهذا التضخم الرأسمالي ستستطيع بعض الدول إدارته بصورة جيدة والبعض الآخر ربما تفلت الأمور من يديه بسبب ارتفاع نسبة الديون للناتج المحلي.
ودفعت نسبة الديون العالمية الناتج الاقتصادي العالمي إلى أكثر من 100% لأول مرة كما جاء في تقرير النظرة المستقبلية الذي أصدره صندوق النقد الدولي مؤخراً حيث أكد فيه أن الزيادة في هذه النسبة اقتربت من 19 نقطة مئوية لتتجاوز بكثير ما حدث في عام 2009 أثناء الأزمة المالية العالمية.
مخاوف
وقال محللون إن الاقتصاد العالمي لا يتحمل موجة ثانية لتفشي كورونا، وهناك توافق دولي على عدم تكرار سيناريو الإغلاق الكامل إلا أنه قد يكون مطروحاً حسب قوة الموجة، موضحين أن عقاراً فعالاً هو الأمل الوحيد لاستمرار وتيرة تعافي الاقتصاد العالمي وتعويض الخسائر التي تكبدها.
ورجح المحللون أن تستمر سياسات البنوك المركزية للإنقاذ إذا لزم الأمر، والشيء الوحيد الذي من المتوقع أن يظل داعماً للاقتصاد هو السياسة النقدية، فمن المهم أن نلاحظ أن احتمال حدوث الموجة الثانية يعتمد على مدى سرعة إيجاد لقاح معتمد وفعال، وما إذا كانت أنظمة الرعاية الصحية حول العالم لديها القدرة على التعامل مع تدفق المرضى بكثرة إذا لزم الأمر.
وأضاف المحللون أن مخاطر موجة ثانية قد تعصف باستقرار أسواق النفط مع انكماش الطلب المتوقع، كما سيؤثر على أسواق الأسهم التي استعادت عافيتها إلى حد ما في بعض الأوقات وبدأت تحقيق مستويات قياسية لا سيما بالولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن زيادة الإقبال على الملاذات الآمنة، الأمر الذي زاد من الطلب على الذهب مما أنعش أسعاره لتجاوز مستويات 2000 دولار للأوقية، ثم إلى 2300 دولار.
فالنظام المالي العالمي لا يتحمل تقديم برامج تحفيز مالي مثل ما قدمته خلال الجائحة والتي فاقمت أوضاع الديون وزادت مستويات السيولة في الأسواق بشكل يهدد ظهور فقاعة من الديون إذ فشلت الشركات في سداد القروض مع موجة تفش ثانية.
فقد رصدت حكومات دول العالم ما يجاوز 10% من الناتج الإجمالي العالمي، عبر سياسات مالية ونقدية، حسب ما ذكرته إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة.
وقد طالت الخسائر غير المسبوقة على للاقتصاد العالمي جميع الدول، ومن المتوقع أن تستمر فترة كبيرة لمعالجتها وستختلف الأمور من دولة لأخرى حسب ملاءتها المالية والاحتياطات النقدية التي ستمكنها من الإنفاق على خطط التحول المطلوبة باقتصاد ما بعد كورونا.
تأثيرات سلبية
ورغم الاتفاق على أهمية خطط التحفيز الضخمة التي رصدتها الحكومات حول العالم للتعافي من تداعيات الفيروس، إلا أنها حملت معها تأثيرات سلبية تستمر بالضغط على الاقتصاد العالمي بعد انقضاء الجائحة.
وقال محللون إن خطط التحفيز المالي والنقدي كانت ضرورة قصوى لتجنب الدخول في كساد عظيم، إلا أن هذه الخطط أغرقت العالم بالسيولة والقروض الرخيصة التي أغرت المتعثرين وغير المتعثرين في الاقتراض بنحو لافت رغم ضبابية المشهد الاقتصادي.
وعلى أعتاب الخسائر التي أدت إلى شلل في الاقتصاد العالمي، يتوقع المحللون أن تكون هناك دول غير قادرة على تخطي النتائج الفادحة التي خيمت على نشاطها المالي والتجاري، وتبقى الدول القوية التي تمتلك الاحتياطيات الجيدة، إضافة إلى أن الصناديق السيادية هي المؤهلة لتخطي الركود المتوقع، خاصة بعض دول الخليج والتي حافظت على أسس اقتصادية جيدة رغم الخسائر، فإن دعم القطاع الخاص، والعمل على إعادة برامج الإنفاق، والتوجه نحو تنوع الاقتصاد كل ذلك سوف يعزز من الاستقرار في المنطقة.
ويرى محللون أن التحفيز سلاح ذو حدين، لأنه في حالة تعافي الاقتصادات بصورة سريعة ورجوع الاقتصادات العالمية إلى ما كانت عليه سيكون ذلك بمثابة تمويل قصير الأجل ساعد في تعافي الأسواق والحفاظ على عدم حدوث خلل في الاقتصاد العالمي، في المقابل، في حالة عدم التعافي السريع سوف يدخل السوق العالمي في موجة من التضخم أو الكساد التضخمي أي زيادة الأسعار مع انخفاض أو انعدام القدرة الشرائية لدى المستهلكين مما يكون له أثر سلبي كبير على الاقتصاد.
مستفيدون
وأظهرت تقارير أن هناك عدداً من القطاعات سوف تتصدر المشهد الاقتصادي العالمي جراء انتشار الفيروس، أولها: «الصيدلة والمعقمات» والتي لمع بريقها مع انتشار الجائحة عالمياً، حيث تسبب الانتشار في تهافت الناس من جميع أنحاء العالم على الصيدليات بقصد شراء المطهرات والمعقمات والفيتامينات والأقنعة «الكمامات» وغيرها من الأدوية بهدف الاحتفاظ بكمية مناسبة منها للاستخدام الشخصي.
وجاء قطاع التجارة الالكترونية ثانياً حيث ازدادت عمليات الشراء عبر الإنترنت نتيجة تجنب الأماكن العامة، وشهدت عمليات التجارة الإلكترونية المرتبطة بقطاع التجزئة نموًا ملحوظاً بالإضافة إلى زيادة عدد زوار المواقع المخصصة بعرض المنتجات وزيادة أعداد الذين يقومون بعمليات الشراء.
واحتلت التطبيقات الذكية ثالث القطاعات المتصدرة، ففي ظل الوضع الراهن ورغبة العديد من العملاء في تجنب الخروج من المنزل والاختلاط بالعامة قدر الإمكان، ارتفع الطلب على التطبيقات الذكية التي تساعد في تقديم الخدمة عن بعد.
وجاء قطاع التعليم عن بعد وكل مخرجاته الاقتصادية رابع القطاعات الأكثر نمواً على المستوى العالمي، حيث قامت معظم دول العالم مؤخراً بتطبيق نظام التعليم عن بعد في مدارسها وجامعاتها
. وجاء قطاع تأسيس منصات الذكاء الاصطناعي خامس أهم القطاعات حيوية مع انتشار الجائحة عالمياً، حيث دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي على خط المواجهة ضد تفشي كورونا بشكل كبير وذلك من خلال استخدام البرامج التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإيجاد الحلول المباشرة في ظل التباعد الاجتماعي المفروض.
متضررون
أما على صعيد القطاعات الأكثر تضرراً من جراء انتشار الجائحة عالمياً، كان قطاع السياحة والسفر الأكثر تضرراً، حيث تشهد معدلات السياحة العالمية تراجعاً ملحوظاً بسبب انتشار الجائحة، ويمثل التراجع ما نسبته 1- 3%.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إنه خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام تراجعت حركة السياح الأجانب إلى الدول بأكثر من النصف وتمت خسارة نحو 320 مليار دولار من العائدات السياحية، وقد تصل الخسائر الإجمالية لعام 2020 إلى أكثر من 900 مليار دولار، بحسب أرقام الأمم المتحدة.
واحتل قطاع «الطيران» ثاني القطاعات الأكثر تضرراً، حيث تأثرت شركات الطيران بشكل خاص بانتشار فيروس كورونا بسبب تطبيق قيود السفر في معظم دول العالم، حيث قال الاتحاد الدولي للنقل الحوي «إياتا» إن خسائر القطاع تبلغ 419 مليار دولار حتى الآن.
واحتل قطاع الفنادق وخدمات الضيافة ثالث القطاعات الأكثر تضرراً، ويشار إلى أن الأسعار المتعلقة بحجز الفنادق قد انخفضت بشكل كبير. ويمثل قطاع «التصدير» رابع أكبر المتضررين، حيث انخفضت صادرات الصناعات التحويلية في جميع أنحاء العالم.
كما تضرر قطاع الخدمات اللوجستية بسبب انتشار الفيروس. ويعد قطاع «التجارة والخدمات» أحد أهم المتضررين نتيجة الجائحة، كما أن قطاع السيارات يعتبر أحد أبرز القطاعات المتضررة عالمياً.
وظائف
ذكر تقرير لمنظمة العمل الدولية، أن 200 مليون من الموظفين بدوام كامل فقدوا وظائفهم بسبب «كوفيد 19» بعد فرض إجراءات الإغلاق الكامل أو الجزئي في العديد من الدول، وما حمله ذلك من تأثير على نحو 2.7 مليار عامل، أي 4 من بين كل 5 من القوى العاملة في العالم.
وأوضح التقرير أن هناك عاملين في 4 قطاعات هم الأكثر تأثراً بسبب المرض وتراجع الإنتاج: قطاع الغذاء والفنادق ويعمل به 144 مليون عامل، وقطاع البيع بالجملة والتجزئة ويعمل به 582 مليوناً، وقطاع خدمات الأعمال والإدارة ويعمل به 157 مليوناً، وقطاع التصنيع وبه 463 مليون عامل.
ويشير مدير منظمة العمل الدولية إلى أن جميع هذه القطاعات تشكل ما نسبته 37.5 % من التوظيف العالمي، ويشعر العاملون في هذه القطاعات أكثر من غيرهم الآن بحدّة تأثير الجائحة عليهم. لكن التقرير في الوقت نفسه شدد على ضرورة حماية العاملين في القطاع الصحي والمهن الاجتماعية والذي يضم 136 مليون شخص حول العالم.