مدار الساعة - دعتني الحملة التي يقودها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المسلمين منذ شهرين -التي كان آخر أخبارها تصريح وزير الداخلية الفرنسي الأسبوع الماضي بأن 76 مسجداً في فرنسا تواجه الإغلاق، وهي جزء من الصراع السياسي الداخلي المرتبط بالانتخابات بين اليمين واليسار في فرنسا وفي غالبية الدول الأوروبية التي بها مهاجرون وجاليات كبيرة- إلى إعادة قراءة كتاب كنت قد قرأته قبل سنوات للدكتور الفاتح على حسنين.
وهو طبيب سوداني درس في بلغراد، عاصمة يوغسلافيا السابقة وصربيا الحالية، وتخصّص في الأمراض الباطنية بعدها في جامعة فيينا بالنمسا. وكانت له إسهامات بارزة في الدعوة الإسلامية في أوروبا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي فترة كانت الشيوعية هي "الموضة" في أوروبا.
الكتاب الذي اختار له عنواناً ذا دلالة: "جسر على نهر الدرينا.. من ذكرياتي ومحن الأقليات المسلمة في شرق أوروبا" هو كتابة لسيرته الذاتية أثناء فترة دراسته للطب في بلغراد وجهوده الدعوية والسياسية في يوغسلافيا السابقة. والتي تشمل دولاً كان المسلمون فيها أقليات مضطهدة بعد خروج العثمانيين منها في أواخر القرن التاسع عشر، مثل شمال مقدونيا وكوسوفو. بالإضافة إلى زياراته وعمله الدعوي بالتعاون مع الطلاب السودانيين والعرب في بلغاريا لمساعدة الأقلية المسلمة التي تعرّضت لموجة رهيبة من الاضطهاد أثناء فترة الحكم الشيوعي. والعبارة الأولى من عنوان الكتاب مقتبسة من عنوان الرواية الشهيرة للكاتب الصربي إيفو إندرايج، الحائز على جائزة نوبل. والتي تحكي قصة دخول الإسلام عن طريق الأتراك العثمانيين إلى البلقان.
جسر درينا بناه الصدر الأعظم محمد باشا سوكولوفيتش على نهر درينا شرق البوسنة في مسقط رأسه، مدينة فوتشي غراد. وقد صمّمه المعماري الأشهر في تاريخ الإمبراطورية العثمانية (سنان). والصدر الأعظم سوكولوفيتش هو طفل نابغة من عائلة مسيحية أخذه العثمانيون للجندية وأظهر نبوغه وتدرّج في الجيش العثماني إلى أن صار الصدر الأعظم في الإمبراطورية. وقرر في أواخر سنين عمره إنشاء معلم فريد في مسقط رأسه كان هو الجسر الذي بُني في عام 1571 وما زال موجوداً. ورواية "جسر على نهر الدرينا" للكاتب إيفو إندرايج صارت الكتاب الأبرز لمن يريد معرفة التاريخ والسياسة لمنطقة البلقان عموماً واتحاد جمهوريات يوغسلافيا السابقة على وجه الخصوص. حيث تحكي تفاصيل مهمة ومثيرة عن دخول الإسلام لتلك المنطقة، رغم تحامل الرواية الظاهر على المسلمين.
نعود إلى الفاتح حسنين وكتابه "جسر على نهر الدرينا.. من ذكرياتي ومحن الأقليات المسلمة في شرق أوروبا" الذي يحكي فيه عن رحلته هو و15 طالباً سودانياً في أواخر عام 1964 إلى بلغراد للدراسة. وإنهم كانوا دفعة مختلفة عن الدفعات السابقة من ناحية التزامهم بالصلاة وابتعادهم عن المنكرات في بلد تتوفّر فيه كل "التسهيلات" للشباب من أمثالهم. ويتحدّث في الكتاب عن صراعاته السياسية مع الطلاب الشيوعيين الذين كانوا على قلّتهم هم الأعلى صوتاً ويسيطرون على الجمعيات والاتحادات الطلابية.
كما يتحدث عن أنشطة اتحاد الطلاب المسلمين في شرق أوروبا، والذي أسّسه هو بالتعاون من رفاقه. ويشير إلى أسفارهم في أنحاء يوغسلافيا للتعرف على الأقليات المسلمة في البوسنة وشمال مقدونيا وكوسوفو وجنوب صربيا (السنجك)، وإلى تعرّفه على المحامي حينها علي عزت بيجوفيتش وعملهما معاً في ترجمة ونشر الكتب الإسلامية وسط المسلمين هناك.
من نشاطه الدعوي أيضاً إسهامه في طباعة معاني القرآن الكريم باللغات البوسنية والألبانية والبلغارية والتشيكية والرومانية، وقد أسهمت "وكالة العالم الثالث" التي أسّسها الفاتح حسنين في النمسا، بشكل كبير في إنشاء دولة البوسنة والهرسك، ودعم الوجود الإسلامي في شرق أوروبا. وخاصة في ألبانيا وكوسوفو. وقد غادر الطبيب الداعية النمسا ليقيم في تركيا لعدة سنوات، الأمر الذي ساهم في توطيد علاقته مع إسلاميي تركيا ومنهم نجم الدين أربكان والرئيس الحالي أردوغان.
ولحسنين مساهمات قيّمة في تنبيه العالم الإسلامي حينها لمحنة الأقلية المسلمة في بلغاريا، حيث شارك وهو طالب في مؤتمر الشباب الإسلامي العالمي الأول الذي عُقد في يوليو 1973 في ليبيا برعاية من جمعية الدعوة الإسلامية العالمية. وحول هذا المؤتمر يشير حسنين إلى مخاوف القذافي من الإخوان المسلمين وقتها في ليبيا وعلاقته القوية مع بلغاريا التي هاجمها المشاركون في المؤتمر بسبب إجراءاتها القمعية بحق الأقلية المسلمة فيها.
كما تحدث عن المضايقات التي تعرّض لها المتحدثون في المؤتمر مثل قطع الكهرباء وغيرها من المضايقات.
تحدّث الفاتح حسنين في كتابه أيضاً عن إسهاماته في طباعة الكتيبات الدعوية للأقلية المسلمة في يوغوسلافيا ومضايقات رجال الأمن حينها لهم والخوف من الاعتقال الذي يؤدي بالمسلمين للابتعاد عن أي مظاهر تشير إلى التزامهم بدينهم.
كما تحدّث عن العلاقات الإنسانية التي أنشأها مع أفراد وأسر مسلمة مثل أسرة أولاد صالح في شمال مقدونيا الحالية. ونشر بعضاً من مذكرات الكادر النشط في حركة الشباب الإسلامي بيوغسلافيا منير قافران كابيتانوفيتش (Munir Gavran Kapitanovic) التي تحدّث فيها عن تضحياته ورفاقه في مجال الدعوة منذ أربعينيات القرن العشرين.
وتنظيم الشبان المسلمين (Mladi Muslimani) الذي كان نواةً للمجموعة التي أنشئت بعد نصف قرن دولة البوسنة والهرسك. ويحكي حسنين في فصل من كتابه عن منطقة شرق البوسنة والمسلمين فيها، وكيف خلق علاقات طيبة مع الأسر المسلمة هناك لدرجة أن بعضهم خطبوه لبناتهم. وكيف أسهم مع بعض المسلمين هناك في صيانة المساجد القديمة وتزويدها بمكبرات الصوت والكتيبات التعليمية.
الكتاب في مجمله رسالة للشباب في التيارات الإسلامية للسير في طريق الرجل الذي حكى عدداً من المواقف التي هي خليط من الرجولة والمروءة والغيرة على الدين. وقد ذكر حسنين في مقدمة الكتاب أنه تردّد كثيراً في كتابته خوفاً من الوقوع في مأزق غرور النفس والإعجاب بها. لكنه آثر أن يكون ملهماً لشباب الإسلاميين.
وروايته لبعض المواقف ذكّرتني ببعض صفات الطلاب الإسلاميين الذين درسوا معنا في الجامعات السودانية، حيث الميل للعنف والغرور. وقد نجد العذر للطالب الفاتح حسنين وهو يدرس في بلد شيوعي يُضطهد فيه المسلمون ويتم محو تاريخهم وحاضرهم عن سبق الإصرار. لكن أساليب غالبية الطلاب الإسلاميين في دول إسلامية في العمل التنظيمي والسياسي لا يمكن وصفها سوى بأنها مأخوذة من خصومهم الشيوعيين، بل إنهم تفوقوا على كافة تنظيمات اليسار في بعضها.
واصل الفاتح حسنين عمله الدعوي والسياسي ليصبح مستشاراً لعلي عزت بيجوفيتش، أول رئيس للبوسنة والهرسك، وقائماً بأعماله لفترة. كما وطّد حسنين علاقاته أثناء إقامته في تركيا مع الرئيس أردوغان حينما كان الأخير مسؤولاً عن ملف دعم البوسنة في "حزب الرفاه"، والذي يذكر حسنين في أحد حواراته أنه زاره حينما كان أردوغان في السجن في تركيا وقال له: "مرحباً برئيس تركيا القادم"، فكان ردّ أردوغان المندهش: "كيف أكون رئيس تركيا القادم وأنا في السجن". وقد صدقت نبوءة حسنين وظلّ أردوغان وفياً لصداقته مع الرجل ليزوره مرتين في السودان.
الأولى في أواسط العقد الأول من الألفية الثانية حينما كان رئيساً للوزراء. والثانية في أواخر عام 2017 حينما كان في زيارة دولة وهو رئيس لتركيا. وفي العام التالي تدهورت صحة حسنين بصورة مفاجئة، ليرسل له أردوغان طائرة خاصة مع طاقم طبي مجهّز لنقله إلى تركيا للعلاج هناك.
من أعمال الرجل التي ستظل صدقة جارية له بعد رحيله تأسيسه المدرسة العليا في مدينة بيهاج شمال غرب البوسنة، وتأسيسه مدرسة الغازي على عزت بك في إسطنبول ووكالة العالم الثالث التي أسهمت في وضع اللبنات الأولى لقيام البوسنة والهرسك.
وقد دفع ثمن نشاطه في البوسنة بنزع الجنسية البوسنية عنه بعد اتهامه بتسهيل دخول المجاهدين العرب للبلاد. ومما يُحمد للرجل أنهأر ركّز على العمل الدعوي والسياسي في أوروبا، وابتعد عنه في بلده السودان. حيث كانت تجربة الإسلاميين في الحكم في السودان وبالاً عليهم. وأسهمت في ابتعاد الكثير من مفكريهم وعلمائهم عن العمل السياسي بسبب الفساد والاستبداد وسوء الإدارة التي صاحبت عهدهم. وهناك إخوان لحسنين في التنظيم فضّلوا مثله العمل الدعوي الخارجي على الدخول في مستنقع السياسة الداخلية القذر والسلطة والمناصب مثل البروفيسور حسن مكّي. الذي كانت له إسهامات كبيرة في العمل الدعوي في إفريقيا عن طريق المنح التي تقدمها جامعة إفريقيا العالمية في الخرطوم للطلاب من الجاليات المسلمة الإفريقية والآسيوية من غير الناطقين بالعربية.