أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات برلمانيات جامعات وفيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية الموقف شكوى مستثمر شهادة مناسبات جاهات واعراس مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

التل يكتب: دماؤه أضاءت سماء العرب.. وصفي التل

مدار الساعة,مقالات
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - كتب: د. مصطفى التل

عندما يرحل عظيم من عظماء الأردن كأن الأرض تنتقص من أطرافها، و ينطفئ السراج الذي كان يرسل نوره وخيره في ربوع الوطن. عندما يترجل الفرسان تنفطر القلوب، فهم حماة الأردن وركنه الركين، وصمام أمن قِيمه ومبادئه التي ترتفع به إلى مصاف الأوطان ذات الإسهامات الكبرى في حياة الأمة.

(وصفي التل) ليس رجلا عاديا أو شخصا عابرا , بل هو أحد رموز الأمة العربية .

اليوم تعتمل في نفوسنا مشاعر عميقة تستعر فيها الحسرة والألم في رثاء رجل بأمة , رجل أحيا وطنه الذي افترسته وحوش التغريب ,والتحلل القيمي والعقدي, في حقبة الانفتاح المزعومة، وعمل ليل نهار لخدمة قضايا أمته ووطنه التي تآمر عليها كل شاذ في الآفاق ، في زمن التبعية للهوان , وردّة عن الثوابت الناصعة الجلية.

(وصفي التل) واحد من العظماء الذين أنجبتهم الأردن في القرن العشرين، ووهبتهم قدرات وطاقات متفردة ارتفعت بهم إلى قمة المجد , وذرى التضحية والعطاء

"أبو مصطفى " قائد ليس ككل قائد، وأيقونة وطنية ليست ككل أيقونة، ارثه الذي يتوطن بين دفتي حياته والتي تتقاطر من أسفارها المضيئة كل صور العطاء والتضحية ، يضعه دون أدنى شك في المرتبة الأعلى التي لا يجاوره فيها إلا أفراد لا يتعدون أصابع اليد الواحدة من قادة الأمة ، بالغي التفرد والتميز والإبداع، في العصر الحديث.

سيرة " وصفي التل " والتي تقاطر منها القليل حتى الآن , تشكل نموذجا للإصرار الوطني والمواجهة والتحدي في كل ميادين المواجهة الحتمية وفي مختلف الأوقات، فجيلنا الحالي لا يدرك منها إلا عناوين عريضة , و التي بزغت في مرحلة ما من مراحل حياة " ابو مصطفى " , جزء يسير من صحائف أعماله والتي كتبت بمداد الذهب نُقشت بحروف المجد والفخار، على صفحات أحداث من مراحل وعهود زمنية عصفت بها التحديات , واشتعلت فيها المؤامرات اشتعال النار في الهشيم.

(وصفي التل ) مثّل مدرسة فكرية عسكرية وسياسية واقتصادية كبرى, متكاملة الأبعاد والأركان، برمجة شاملة تركت بصماتها المؤثرة في كل مكان، وتركت آثارها العميقة في حياة الأردن وفلسطين والأمة العربية جمعاء.

أهمية ودور ومكانة "أبو مصطفى " لم تأتى فقط من مواقعه التي شغلها في الأردن أو سوريا أو فلسطين ، أو قيادته التاريخية للحكومة الأردنية في فترة تاريخية حرجة من مراحل الأردن وظروفها الداخلية التي استعلى فيها فكر الميلشيات المستأجرة من بعض الأنظمة العربية الرعناء , على كل مفردات وتفاصيل الحياة المدنية وشؤون المجتمع، بل إن " وصفي التل " اكتسب أهميته ومكانته أكثر ما يكون كقائد قومي على مستوى العالم العربي ككل، لا يؤمن بالقطرية المحلية الضيقة، فهو مقاتل شرس عن حقوق وقضايا الشعوب العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ومتصدي متفرد للطغيان الدولي ، ويملك رؤى وحلولا ومشروعا وطنيا وقوميا تتجاوز عناصره ومكوناته وتأثيراته الأردن إلى آفاق العالم العربي المشحونة بالتآمر والانقلابات في تلك المرحلة .

تجربة "وصفي التل " ليست كأي تجربة, إنها تجربة متفردة بوجه مصاعب وعقبات لا حصر لها، أعادت رسم وتشكيل الخريطة الأردنية الفلسطينية , إثر سنوات حالكة السواد من البغي العربي الذي وأد كل بادرة لتحرير فلسطين ورد العادية الدولية عليهم ، هذا البغي العربي الذي حارب مخلصي الأمة بلا هوادة، وبث فيها معاني الميوعة العسكرية والسياسية والاقتصادية والسقوط في مهاوي الخسران المبين .

حياة" أبو مصطفى " مثّلت كل أشكال القوة والعزم والصبر والثبات والصمود في وجه المحن والتحديات، فما إن يؤسس اتجاها عسكريا وفكريا وسياسيا لإحياء قيم التحرر والكرامة , حتى تغلقه دول عربية ببوقها الإعلامي الكاذب ظلما وعدوانا حتى يؤسس اتجاها آخر بكل عزيمة وحنكة يندر وجودها، وما إن يحارب في اتجاه حتى ينشط ويجتهد في اتجاه آخر دون كلل أو ملل , وهكذا في مصفوفة رائعة من التصميم و الإصرار المتفرد المتفاعل في قلب وعقل شخصية متفردة لا تأبه بباطل عربي هنا وهناك , ولا تأبه بانتفاخ هذا الباطل الهش من خلال أدواته الباغية الكاذبة ، ولا ترتعد من سطوته الكاذبة وسياساته الرعناء.

حياة "وصفي التل " لا تُختصر على المواقف الجريئة والقدرات الفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية الباهرة، بل إن صانع الفكر السياسي والاقتصادي الصلب الواضح في عصر المؤامرات العربية والسقوط العربي المجحف والمذل , امتلك مرونة سياسية وعسكرية صقلتها التجارب والخبرات وسط الخطوب المدلّهمة، لتتشكل شخصية متفردة ذات ملامح ومكونات متكاملة , اقترنت بكاريزما شخصية وحضور لافت لا يختلف في جدارتها وأهليتها أحد.

من الصعوبة بمكان الإحاطة بقامة كبرى كقامة " وصفي التل " الذي أفنى حياته في سبيل نصرة أمته، وأعطى القضية الفلسطينية جل اهتمامه ووقته وفكره وتخطيطه.

لذا، لم يكن من ضرب الاستغراب أن تفتح جبهات المؤامرات الحقيرة على " أبي مصطفى " رصاصها من كل حدب وصوب، وأن يكون قرار اغتياله حاضرا على الدوام في كل المراحل والمحطات.

حين نتعرض لعلاقة " وصفي التل " بالقضية الفلسطينية فإننا أمام علاقة عضوية عقدية مصيرية لا ثمن لها إلا الدماء وتناثر الأشلاء ، فهي حالة من حالات التجذّرات العميقة في الفكر والثقافة والسياسة والتي تأسست على مشهد شمولي مقرونا بآفاق متوسعة , تدرك أبعاد الصراع , وحقيقة الاحتلال الصهيوني ,ومخططاته لعزل الأمة العربية عن قبلتها (فلسطين)، وتعي أن العمل العربي لإنقاذها من براثن شُذّاذ الآفاق ينبغي أن يستغرق العمل والجهد والتفكير والتخطيط المحنك الكافي ، وأن مَن يتصدى لقضية فلسطين سيكون الثمن من لحمه ودمه، ومِن مستلزمات هذه الحالة الملازمة لها بلا ريب هي رفع سقف تضحياته مهما بلغ الثمن ومهما كانت الظروف.

لم يصرفه الواقع العربي المتأزم والمليء بالمؤامرات القذرة يومًا عن قضية فلسطين، رغم قذارة التشابكات والتعقيدات التي لفّت تلك المرحلة السياسية والعسكرية في الدول العربية المحيطة بالأردن وفلسطين , والمبتلاة بفجور وكذب وتزوير حقائق الواقع من أنظمة مستبدة مصابة بمتلازمة "الأنا" .

القضية الفلسطينية عشعشت في فكره ووجدانه، فكان لها حاملاً ومخططاً , شاحناً للهمم أينما حل أو ارتحل، حتى غدت عنوانا لجميع تحركاته رحمه الله تعالى ، ولحناً يطرب لأنغامه كل أفراد الشعب الأردني والفلسطيني.

ولا زالت الصفحات المتسربة رغما عن أصحابها الذين يريدون طمرها تسرد لنا كيف كان الفلسطينيون والأردنيون يتابعون تحركات " وصفي التل" في محطاته المختلفة، لحظة بلحظة ، وقلوبهم تتضرع إلى الله بالدعاء أن يوفقه في لم الشمل العربي وبناء جسور الدفاع العربي المشترك لتحرير فلسطين ، وأن يُجري على يديه ما كان يصبو إليه من واقع هو كان يتصوره ماثلاً أمامه , كمقدمة سليمة لتخطيط سليم , وأرضية قابلة للانطلاق الفاعل على المستوى العربي ، وتفكيك أزمات الأمة العربية على يديه ، وكبح حال التبعية والانحطاط الذي غرقت فيه الأمة العربية بفعل سياسات بعض الأنظمة الرعناء التي كانت تحيط بالأردن وفلسطين في تلك المرحلة والتي وضعت الأمة العربية في مهاوي الخذلان والذل .

وكم كانت حالة السرور والحبور والاستبشار مع كل تقدم أو نصر يحرزه ، ومع كل فكرة يطلقها لتوحيد الأمة العربية , واستعادة دورها الطبيعي ، ومع كل تحرك يواجه به المتآمرين على فلسطين والأردن .

اليوم، تفتقد فلسطين أكثر من الأردن "أبو مصطفى " الذي أرعب صهاينة العرب قبل صهاينة فلسطين ، الذي زرع بذرة المقاومة والتحرير الواعدة بالمفهوم الحقيقي وليس بالمفهوم العربي المتأزم في حينه المتخلف الذي يصادم الدين والعقائد والمقدسات، فلسطين التي تعزف على وتر المقاومة الحقيقية الغير ملوثة بأدران الكذب والخداع والتضليل، والتي تمثّل دورا بارزا في تشكيل المشهد العربي السياسي العام في منطقة الشرق الأوسط، وتتحدى الصلف والعنجهية الصهيونية، و الأردن التي تؤازر الشعب الفلسطيني في التحامه الدموي نحو نيل حقوقه المسلوبة وكرامته المفقودة من أنياب شذاذ الآفاق والتي كان ضياعها نتيجة طبيعية لأنظمة حكم عربية قمعية ومستبدة كانت سائدة في تلك المرحلة, تفتقد اليوم الى وصفي التل .

رحل "وصفي التل " وغاب عن مشهد الحياة والتحرير، وانطوت صفحة جسده المشتعل بالحرية والقومية ، لكن فكره المبثوث في الأردن وكافة أرجاء وربوع الوطن ما زال متأججا يافعا يحمل الراية ويقود المسيرة , رغما عن أنف الغادر الذي أنهى برصاصته الغادرة حياة رجل لا يعرف إلا لغة الدماء وتناثر الأشلاء مع العدو الصهيوني .

خسرت الأردن وفلسطين والأمة العربية , برحيل " أبو مصطفى " الكثير، وفقدت رجل من أوفى وأصلب وأكبر وأعظم رموزها في العصر الحديث.

رجل سجله التاريخ في ذاكرته التي لا تنسى , بفضل ملاحمه التي غيّرت وجهة الصراع مع العدو الصهيوني و غيّرت مساره المقاوم ، وأعادته إلى قاطرته الصحيحة من جديد بعدما أقحِمت قسرا في غياهب القتال العربي الداخلي , والإرتكاس في الفتن عقودا من الزمن، وإعادة برمجة موقع الصراع الطبيعي وبوصلته وإعادته إلى أحضان الأمة العربية إثر عقود سوداء من الضياع السياسي والعسكري والثقافي واللهاث خلف السراب, نتيجة دخلاء على هذه المقاومة مما جعلها قابلة للاستئجار لمن يدفع أكثر لزعزعة الأنظمة في دول خارج فلسطين, فتم فصل المقاومة الأصيلة عن دخلائها , وكانت دمائه هي المشعل الحقيقي لإعادة المقاومة الفلسطينية إلى موقعها الصحيح والتي تخلّت عنه نتيجة سياسة عربية رعناء أورقت لها جنان من سراب على أرض لا تخصها .

"وصفي التل " حقيقة واقعة مترسّخة في نفوس الشعب الأردني والفلسطيني ليس لمجرد اسمه ، بل هو مسيرة حياة عامرة وتاريخ حافل , لم يعرف يوما معنى التردد أو التراجع أو الخوف أو الانتكاس و الإرتكاس .

مدار الساعة ـ