مدار الساعة - فقد السودان، في وقت مبكر من الخميس، أحد أبرز أركان السياسة بالبلاد منذ الاستقلال برحيل الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام طائفة الأنصار الذي غيبه الموت عن عمر يناهز الـ84 عامًا، متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا بعد ثلاثة أسابيع من دخوله مستشفى بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ينحدر الصادق المهدي من عائلة سياسية عريقة في السودان، فجده الأكبر هو محمد أحمد المهدي الذي أسس الحركة المهدية في السودان، وقاد حركة التحرر ضد المستعمر الإنجليزي، وانتصر فيها هو وأنصاره، واستلم الحكم (1881-1899)، وجده المباشر عبد الرحمن المهدي ووالده هو الصديق المهدي.
بداية العمل السياسي للصادق المهدي لم تكن في الحكم، فقد انخرط بدايةً في صفوف المعارضة في حزب الأمة القومي
شغل الصادق المهدي منصب رئاسة وزراء السودان مرتين، وكانت المرة الأولى التي انتخب فيها لهذا المنصب في حكومة ائتلافية مع الحزب الوطني الاتحادي في الفترة بين 1966 و1967، قبلها ترأس الجبهة القومية المتحدة في الفترة 1961 و1964، ورئاسة حزب الأمة في نوفمبر/تشرين الثاني 1964.
قبل وصوله إلى سدة الحكم، عمل موظفًا في وزارة المالية عام 1957 ليستقيل منها بعد سنة، ثم عمل مديرًا للقسم الزراعي بدائرة المهدي ورئيسًا لاتحاد منتجي القطن بالسودان، بعد ذلك أصبح عضوًا في عدد من المجالس والمنتديات العالمية، منها: نادي مدريد والمؤتمر القومي الإسلامي والمجلس الإسلامي الأوروبي وشبكة الديمقراطيين العرب.
بعد وفاة والده الصديق المهدي عام 1961، تولى الصادق المهدي قيادة الجبهة القومية المتحدة، التي كانت إحدى أكبر الفصائل المعارضة لنظام إبراهيم عبود (قاد أول انقلاب عسكري بالسودان في نوفمبر/تشرين الثاني 1958)، وقبل أن يكمل سن الثلاثين انتخب المهدي رئيسًا لحزب الأمة عام 1964 وهو المنصب الذي ظل يلازمه إلى أن وافته المنية، كما قاد كيان الأنصار الدعوي، وهو أحد أكبر الجماعات الدينية في السودان.
شارك المهدي بفعالية في معارضة نظام عبود، حيث قاد موكب التشييع وأم المصلين في جنازة أحمد القرشي (أول شهيد في ثورة أكتوبر السودانية عام 1964)، وكان ذلك هو الموكب الذي فجر الشرارة التي أطاحت بالنظام.
لم يكتف الصادق المهدي بالمعارضة داخل البلاد، فقد أجبر على الالتحاق بالمعارضة السودانية بالخارج، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وقاد في المهجر الجبهة الوطنية الديمقراطية المعارضة لنظام جعفر النميري (شملت حزب الأمة والحزب الاتحادي والإخوان المسلمين).
عاد إلى السودان سنة 1977، ثم خرج منه مجددًا في بداية التسعينيات، والتحق بالمعارضة التي كانت تقود عملها المسلح من إريتريا عام 1996، في عملية أطلق عليها الزعيم السياسي الذي عرف بولعه بصك المصطلحات اسم عملية "تهتدون".
بالتزامن مع ذلك، بدأ أكبر حملة دبلوماسية وسياسية شهدتها المعارضة السودانية منذ تكوينها، وفي تلك الفترة تفاوض مع نظام عمر البشير في جنيف وجمعه لقاء بحسن الترابي، كما التقى في جيبوتي بالبشير، وعقد حزب الأمة اتفاق نداء الوطن مع النظام في الخرطوم، وذلك تحت رعاية الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر قيلي.
رجع إلى بلاده في 23 من نوفمبر/تشرين الثاني 2000 في عملية أطلق عليها اسم "تفلحون"، وذلك للقيام بالتعبئة الشعبية والتنظيم الحزبي والتفاوض مع النظام والاستمرار في الاتصالات الدبلوماسية، وعقب عودته تأرجحت علاقته بنظام عمر البشير بين توقيع الاتفاقيات وتكريمه واعتقاله، حتى مغادرته للبلاد مجددًا في مارس/آذار 2018 ليتم انتخابه في العاصمة الفرنسية باريس رئيسًا لتكتل نداء السودان المعارض.
خلال سنوات السجن والمنافي والملاحقات، عكف الصادق المهدي على كتابة عدد ضخم من الكتابات لم يتم حصرها بعد في مجالات الفكر والسياسة والتاريخ
يسجل للصادق المهدي أنه كان من أوائل الموقعين على إعلان الحرية والتغيير ضمن الائتلاف الذي قاد الثورة التي أسقطت نظام الرئيس عمر البشير في أبريل/نيسان من العام 2019، وقد كان على رأس عملية التنسيق بين الأحزاب والقوى المعارضة لنظام الإنقاذ.
نفي بعد ذلك إلى مصر ووضع تحت الإقامة الجبرية، ثم رجع لسجن بورتسودان معتقلًا حتى مايو/أيار 1973، وأطلق سراحه لعدة أشهر ثم اعتقل بعد انتفاضة سبتمبر/أيلول 1973 وبقي في السجن حتى مايو 1974.
عاد الصادق المهدي إلى السجن مجددًا في 25 من سبتمبر/أيلول 1983، بعد أن جاهر في خطبة عيد الأضحى المبارك بمعارضته لـ"الثورة التشريعية" التي أطلقها نظام النميري باعتبارها أكبر تشويه للشرع الإسلامي وعقبة في سبيل البعث الإسلامي في العصر الحديث.
أطلق سراحه في ديسمبر/كانون الأول 1984، لكن اعتقل مجددًا في يوليو/حزيران 1989 بعد انقلاب عمر البشير وقد كان بصدد تقديم مذكرة لقادة الانقلاب وجدت معه، سُجن في سجن كوبر حتى ديسمبر/كانون الأول 1990، ثم حول للاعتقال التحفظي في منزل زوج عمته بالرياض "محجوب جعفر"، حيث سمح لأفراد أسرته بمرافقته.
أطلق سراحه في 30 من أبريل/نيسان 1992، ثم اعتقل للمرة الأخيرة في 16 من مايو/أيار 2014 بسبب حديثه عن الفظائع التي ترتكبها قوات الدعم السريع (الجنجويد) في دارفور ووجهت له اتهامات تصل عقوبتها للإعدام، لكن نظام البشير رضخ لضغوط كثيرة داخلية وخارجية وأطلق سراحه في 15 من يونيو/حزيران 2014.
لم يكن اهتمام المهدي صادق منكبًا على الجبهة الداخلية فقط، بل كانت له اهتمامات بالقضايا العربية
فضلًا عن ذلك، كتب الصادق المهدي كتب: "النهج الإسلامي بين الاستقامة والتشويه" (1985) و"الإسلام ومسألة جنوب السودان" (1985) و"المرأة وحقوقها في الإسلام" (1985) و"العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي" (1987) و"الديمقراطية في السودان عائدة وراجحة" (1990) و"الإسلام والنظام العالمي الجديد" و"السودان إلى أين؟" (1993) و"المشروع الحضاري الإسلامي العربي والمسألة الإسرائيلية" (1998) و"من أجل وحدة جاذبة أو جوار أخوي" (2009).
واعتبر المهدي أن التطبيع "يناقض القانون الوطني السوداني والالتزام القومي العربي، ويساهم في القضاء على مشروع السلام في الشرق الأوسط، والتمهيد لإشعال حرب جديدة"، كما أنه "يناقض المصلحة الوطنية العليا، ومع الموقف الشعبي السوداني في أي اختبار حر للإرادة الوطنية، ويتجاوز صلاحيات الفترة الانتقالية".
ودعا الإمام المهدي في هذا الشأن إلى الإقبال على صلح سياسي بين كل القوى الوطنية اليمنية، كما طالب الرئيس السوداني السابق عمر البشير بسحب القوات السودانية المشاركة في الحرب والمشاركة مع الآخرين لتحقيق السلام والصلح في هذا البلد العربي.
كان يرى أن "السودان وبحكم علاقاته المتينة مع طرفي النزاع في اليمن يمكنه التوسط من أجل إيقاف الحرب التي وصفها بالطائفية والتي لن تؤدي إلى شيء غير تدمير اليمن وشعبه"، ومن واجبه أيضًا مساعدة الأطراف المشاركة في الحرب باليمن للخروج من "الورطة وليس الاشتراك فيها".
موقفه من حرب اليمن، جعل السعوديين يتهمونه بـ"التآمر" مع قطر ضد بلادهم، حيث قالت قناة "الإخبارية" السعودية الرسمية في تقرير لها سنة 2017: "المعارض السوداني الصادق المهدي اتفق مؤخرًا مع سفير قطر بالخرطوم على العمل معًا من أجل تأليب الرأي العام في السودان ضد السعودية، ومما تمخض عنه ذلك الاتفاق الدعوة إلى التحريض على عدم مشاركة القوات السودانية بتحالف دعم الشرعية في اليمن الذي تقوده المملكة".