مدار الساعة - هناك نمطان أو نظامان من العمليات العقلية التي تقوم بها أدمغتنا البشرية لاتخاذ القرارات. الأول يُعرف بالتفكير أو النظام التحليلي، ويتطلّب قدرة عالية وبطيئة ومتأنّية على الموازنة الدقيقة بين التكاليف والفوائد والتبعات والمآلات.
والثاني هو النظام الحدسيّ الذي يحدث بسرعة أو بصورة مباشرة، مع قليل من الجهد المعرفيّ أو حتّى بدونه. فهو لا يتطلّب كثيرا من التركيز أو التدقيق. كأنْ نستخدمه لاختيار وجبة الغداء التي سنتناولها اليوم، أو ما الذي سنرتديه صباحا قبل خروجنا من البيت.
كلا النظامين له مزاياه الخاصّة. لكنْ بكلّ تأكيد، لا ينبغي على النظام الثاني أنْ يوجّه استجاباتنا وطرق تفكيرنا حين يتعلّق الأمر بوباءٍ ما زلنا نواجهه منذ شهور دون أنْ ينقشع خطره أو يتناقص. فعلى الرغم من التحذيرات الطبّية والعلميّة من أنّنا على أعتاب موجةٍ ثانية لوباء كورونا، إلّا أنّ الكثير من الحكومات والأشخاص لا يزالون حتى اليوم يصرّون على التقليل من خطورته أو إهماله، إلى درجة الإنكار التامّ وإلصاق نظريات المؤامرة العديدة فيه، واتّهام الأطبّاء بالمبالغة حياله.
على الصعيد السياسيّ، لا شكّ أنّ عددا كبيرا من الأشخاص قد تأثروا بالتذبذب الكبير في القرارات الحكومية، وعددٍ مهوّلٍ آخر من التصريحات الساذجة أو المتناقضة التي صدرت عن شخصيّات تشغل مناصب رسميّة، ما زاد من حدّة عدم اليقين والتوتر اللذين يعتريان شرائح كبيرة من المجتمعات منذ بدء انتشار الفيروس. ولا ننسى أنّ كثيرا من تلك التصريحات والقرارات قد تكون قد خرجت على عمدٍ لأنّها تخدم سياسيا جهة ما، وتحشد أنصارها دون حاجتها للاستدلال أو اللجوء إلى المنطق والعقلانية.
لماذا ما يزال البعض يصرّ على المؤامرة؟
في عام 1960، أجرى عالم النفس المعرفي "بيتر واسون" عددا من التجارب التي أظهرت وتوصّلت إلى أنّ الأشخاص لديهم ميل كبير للإيمان والاعتقاد بالمعلومات التي تؤكّد معتقداتهم القائمة أساسا، ولسوء الحظ، فإنّ هذا النوع من الانحيازات التأكيدية " confirmation bias" يمكن أن يمنعنا من النظر في المواقف والأحداث بشكل موضوعي، إضافةٍ إلى إمكانية تأثيره على القرارات التي نتخذها والتي يمكن أن تؤدي إلى قرارات خاطئة، لا سيّما في الأوقات الحرجة والخطرة.
فبمجرد أن نكون قد شكّلنا وجهة نظر حول موضوع ما، فإننا نحتفظ بالمعلومات التي تؤكد هذه الوجهة مع تجاهل أو رفض أي معلومات قد تثير شكوكنا حياله. ما يمنعنا من النظر إلى الظروف والأحداث بطريقة موضوعية، وإنما نختار التفاصيل من المعلومات والبيانات التي تجعلنا نشعر بأننا بحالةٍ جيدة وتقودنا للراحة المعرفيّة لأنها تؤكد ما لدينا. وهكذا، نصبح سجناء لافتراضاتنا التي قد لا ترتبط للموضوعية والمنطق بصلة.
يمكن أنْ ترتبط انحيازاتنا التأكيدية أيضا بحاجتنا الذاتية للشعور بالتفرّد والتميّز. فغالبا ما يكون الأشخاص الذي يؤمنون بنظريات المؤامرة ميّالين للشعور بأنّهم مميّزون بأفكارهم ومختلفين عن كثيرٍ من الأشخاص الآخرين، الذين يأخذون الفيروس على محمل الجدّ ويتّبعون معايير الوقاية والحماية اللازمة. فهم يبحثون عن ما يجعلهم متفرّدين عمّن حولهم لمجرّد الاختلاف والتميّز.
ما يعني أنّ الأشخاص الذين تعاملوا مع الجائحة منذ بدايتها بعقلية المؤامرة والإنكار، سيكون من الصعب عليهم اليوم أيضا تغيير وجهات نظرهم تلك حتى في حال محاولة إقناعهم أو محاورتهم، بالاعتماد على الأدلّة العلمية والأرقام والإحصائيات المؤكّدة. فغالبا ما تؤدّي هذه المحاولات إلى التأثير عكسيا فتزيد من تمسّكهم بأفكارهم ومفاهيمهم الخاطئة بدرجة أكبر. وهو ما يُعرف في علم النفس بتأثير الناتج العكسي "backfire effect".
وقد أثبت علماء الأعصاب هذا النوع من الانحيازات أيضا؛ ففي واحدة من الدراسات (1)، أظهر الباحثون مجموعة من المعلومات للمشاركين تؤكّد معتقداتهم حول موضوع معين وتتوافق مع وجهات نظرهم السابقة، ما أدى إلى تحفيز أجزاء الدماغ المرتبطة بالتعلم والذاكرة، كما أظهر التصوير بالرنين المغناطيسي. أمّا عند مواجهتهم بمعلومات متناقضة أو مغايرة، فلم يحدث ذلك التحفيز لتلك الأجزاء.
إذ؛ غالبا ما يميل الدماغ إلى الاعتماد على المعلومات المختصرة لديه، التي كوّنها في أوقات سابقة للتعامل مع ما يمرّ به ويواجهه في حياته اليومية. مشكلة هذه المعلومات أنها تكون في معظم الأحيان غير كافية تماما للوصول إلى الفكر السليم أو اتخاذ القرار الصائب. لكن وفقا ما تخبرنا به نظرية "الكفاءة المعرفية"، فإنّ البشر يميلون إلى تصور العالم من خلال عدد من المعلومات البسيطة التي تتطلّب القليل من الجهد في التفكير أو التحليل أو الربط.
تُعرف تلك المعلومات باسم "الاختصارات العقلية" أو "الاستدلالات". يصبح الأمر كالآتي إذن: عندما تكثر الحجج والمعلومات من حولنا، أو عندما لا يكون لدينا الوقت الكافي للتفكير والنظر بالأحداث بشكل كامل، فإنّنا نعتمد على الاختصارات العقلية أو الاستدلالات البسيطة، التي قد تكون معتقدات سابقة، أو تصريحا لخبير أو سياسيّ نثق به وبرأيه، أو آراء لمجموعة من الأشخاص من حولنا.
بكلماتٍ أخرى، مجرد تقديم المعلومات والحقائق الأكيدة للأشخاص الذين ينظرون لبعض الأمور بعقلية الإنكار أو المؤامرة، قد لا يُجدي نفعا في مساعدتهم على استيعابها وتغيير طرق تفكيرهم حيالها.
لذلك، من الضروري الحذر بالطريقة التي يُناقشون فيها دون مهاجمتهم أو الحُكم عليهم أو على أفكارهم وقناعاتهم.
لذلك، فإنّ أفضل طريقة للتعامل مع هؤلاء الأشخاص هو محاولة تفهّم وجهات نظرهم والاستماع إليهم بتقبّل مهما كانت حججهم أو استدلالاتهم، دون استثارة غضبهم أو أيّ نوع آخر من المشاعر السلبيّة الأخرى.
عربي 21