مدار الساعة - تأخذ مواجهة الدين أشكالا متعددة، تبدأ من الإلحاد الكامل؛ الذي أصبح شكلا ممجوجا لا يحظى بجماهيرية، مرورا بتغييب الدين عن الحياة، وإخضاعه لعملية فك وتركيب تسمح بأخذ بعضا من تعاليمه وترك البقية، وهو ما أطلق عليه القرآن “العضين” في قوله تعالي:”الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ”[1]، أو حرف الدين عن مساراته الإصلاحية وفصله عن قضايا الناس واهتماماتهم، فيكون حضوره باهتا غير نافع في معاش الناس.
ومنذ أن انتصرت العلمانية في مواجهتها مع الكنيسة في أوروبا، تمت إزاحة الدين عن الحكم والحياة بلا هوادة ولا توقف، غير أن ضريبة ذلك الإبعاد كانت قاسية.
وفي محاولة لملء هذا الفراغ ابتكرت العلمانية “الدين المدني“[2] فتغير التقديس من الخالق سبحانه إلى الأمة، وتحولت تعاليم الوحي والدين من معيار للحكم على الأخلاق وإنشائها، إلى أن يصبح العقل هو المعيار لما هو أخلاقي، وأصبحت المنفعة هي المحرك الرئيسي للأخلاق والقانون، وتعرضت مصطلحات الدين الضابطة للضمير وحركة الإنسان لعملية سطو علماني، فمع الأيام الأولى للثوة الفرنسية، كتب أحد قادتها وهو “أونوريه ميرابو”: “أن إعلان حقوق الإنسان أصبح إنجيلا سياسيا، والدستور الفرنسي دينا يمكن للبشر أن يضحوا بحياتهم في سبيله”، لم يمنح ذلك الدين الجديد شعائر تبعث الطمأنينة، أو وعودا بالأبدية تغري النفس بالصبر على صروف الدهر وتقلبات الزمان، بل وثق هذا الدين أواصره مع المادية مغفلا حق الروح وتأثيرها في الحياة.
ومع طغيان المادية كانت صرخات الروح ذات دوي كبير في تلك القلوب الفارغة، والضمائر القلقة، في كتابها “حقول الدم” تمسك المفكرة البريطانية “كارين أرمسترونج” بهذه الحقيقة قائلة: “كثيرا ما عاش البشر لحظات من النشوة والكثافة التي تمنح حياتهم المعنى والغاية، وإذا لم يعد الرمز أو الأيقونة أو الأسطورة قادرا على تقديم قيمة مفارقة للإنسان، فإن البشر يقومون باستبداله بأي شيء آخر”.
كان البحث عن معنى للحياة بعيدا عن الدين وبمعزل عن الروح هو أزمة العلمانية الكبرى خلال قرونها الثلاثة الأخيرة، فسعت لملء الفراغ بالأشياء المادية، فزادت من أزمة الإنسان، وصار الإنسان يترك الدين ويفضل ألا ينتمي إلى يقين لا يمنحه الطمأنينة، وأصبح الإنسان الغربي-تحديدا- من أكثر البشر معاناة في هذا الجانب، وهو معنى وضحه اللاهوتي الألماني ديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer، بأن الوظيفة الإدراكية للإنسان أصبحت محل صراع بين علم يجرّد إيمان الإنسان من إنسانيّته، وإيمان يشوَّه التأويل الديني، وهنا تم تفرغ المعرفة الإنسانية من معانيها المقدسة والمتجاوزة، وظن الإنسان أنه قادر على خلق عالمه بنفسه دون حاجة إلى هداية من السماء.
وفي مجتمع يؤثر فيه الدين مثل المجتمع الأمريكي، زادت أعداد اللادينيين في السنوات الأخيرة، وهو ما يؤكد تقرير معهد “بيو لأبحاث الدين” إذ يقدر النسبة بـ30% من البالغين الأمريكيين، ويدعي هؤلاء أنهم فقدوا إيمانهم، لكنهم يبحثون عن طمأنينة لأرواحهم القلقة، لذا كثرت البرامج التدريبية والكتب الإرشادية التي تعالج هؤلاء بمعزل عن الدين، والساعية لترميم تصدعات الروح بمواد غير دينية، هي أقرب لنصائح التنمية البشرية، لكن الجديد هو : أن علماء النفس أصبحوا هم من يتصدر المشهد وليس الفلاسفة.
وقد تناولت كتب غربية حديثة تلك الأزمة الروحية المتفاقمة، والمساعي الحثيثة لملء الفرغ بغير الدين، أي: البحث عن مسكنات للروح وليس علاجا لمشكلتها، ففي كتاب : Grace Without God للصحفية “كاثرين أوزمنت” Katherine Ozment، [3] تعرض محاولة علمانية للإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى، تلك الأسئلة التي يطرحها الأبناء وتستعصي على الآباء، لكن المسكوت عنه في الكتاب هو الحاجة الماسة للدين في التنشئة وبناء النفس الإنسانية، إذ يمنح الدين المعنى للحياة، ويمد الروح بقين عظيم يقوي عزم الإنسان، فالإيمان يُنشيء الأخلاق ويمنح شعورا عميقا بالهوية لا تستطيع أن تمنحه العلمانية والمادية، كذلك فالهروب من الدين واستحقاقاته يكاد أن يكون أمرا مستحيلا.
وفي كتاب “الروحانية العلمانية: الخطوة التالية نحو التنوير“[5] لـ” هارالد والاك “Harald Walach ، فهو محاولة علمانية للتغريد بعيدا عن الدين لمواجهة أزمات الروح، لكنه ينظر إلى رعاية الروح من منظور نفعي حتى تستمر العلمانية، وليس اعترافا بأهميتها ووجودها، داعيا إلى دمج الروح في المشروع التنويري الغربي.
وتقدم كثير من تلك الكتب نصائح لرعاية الروح كالمشي في الغابات والاستماع إلى الموسيقى أو ممارسة الرياضة خاصة “اليوجا” القائمة على التأمل، كمحاولة لتحقيق الامتلاء الروحي، فالعلمانية تسعى لبناء إنسانية خاصة بها؛ وهذا يجبرها أن تلتقي مع الدين في الطريق، وهو ما ترفضه، وتجتهد لبناء طرق التفافية حتى لا يتم هذا اللقاء، الذي تتوقع فيه العلمانية أن يستعيد الدين مرة أخرى الإنسان إلى رحابه الواسع، بل إن مصطلح “الروحانية العلمانية” الذي يتم الترويج له، يحمل التناقض في أحشائه، فالعلمانية لا تعترف إلا بما هو مادي ويخضع للحواس.
ومن الكتب التي لا تعترف بوجود الخالق سبحانه، ولكنه تصر على أهمية الإيمان بالخالق، كتاب” اختراع الرب: علم نفس الإيمان وصعود الروحانيات العلمانية“[6] ، لعالم النفس “جون ميلز” الذي ينكر وجود الخالق، لكنه يرى أن الإنسان بحاجة إلى اختراعه، وينسج من تلك الأفكار الهشة إيمانا ضحلا لا يبحث عن النور والحقيقة، ولكن يمنح “المسكنات” لتكف الروح عن طرح الأسئلة الوجودية، إذ تحاول هذه الأفكار إزالة الدهشة والرهبة في نظر الإنسان للكون، وهي محاولة ساذجة سعى من خلالها “سام هارس” Sam Harris، للظفر منها بشيء في كتاب “الاستيقاظ: البحث عن الروحانيات بدون دين“[7] .
وكذلك كتاب “هذه الحياة: الإيمان العلماني والحرية الروحية“[8]” لــ”مارتن هاجولند” Martin Hägglund، الذي حاول تقديم رؤية علمانية للعيش في الحياة بدون معنى ديني وروحي، فيؤكد أن “الإيمان الذي نحتاج إلى تنميته ليس إيمانًا دينيًا في الأبدية، ولكن إيمان علماني مكرس لحياتنا المحدودة معًا”، محاولا ربط المعاني الروحية بالواقع المادي والاقتصادي، وربما ما يطرحه لا يختلف عن منطق “الدهريين” الذين تحدث عنهم القرآن الكريم، فالكتاب حاول إنشاء إيمان علماني بلا مُثُل عليا متجاوزة، وبلا حياة أبدية، ولا التزام شعائري تعبدي، إذ أن العبادة تخلق مساحة من الصلة والتواصل بين الإنسان وخالقه تشبع روحه وتسكن مخاوفه وقلقه الوجودي.
والحقيقة أن ما يجري في الجانب العلماني لرعاية الروح هي محاولات إصلاح سريعة، عاجلة، وسطحية، ليشعر الإنسان بالسعادة، حتى تزيد الانتاجية، وتتراجع حالات الانتحار والاكتئاب والجرائم، وليس إيمانا كاملا بأن الإنسان خلق من طين ونفخة إلهية منحته الحياة، فالإنسان مادة وروح، وبدون الروح يصير طينا لا معنى له ولا قيمة، أو كما يقول جلال الدين الرومي:” نحن فراغ لا يملؤنا الا الحب، وعتمة لا يضيؤها الا العشق“.