مدار الساعة - ذكر الأصوليون بعض الشروط التي يجب أن تتوافر في القائم بالإفتاء، ويمكن أن نقسمها إلى قسمين:
القسم الأول: شروط تتعلق بشخص المفتي
وهي تقسيمها إلى:
القسم الثاني: تتعلق بعلم المفتي
ومن أهم العلوم التي يجب على المفتي تحصيلها:
وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث ، وليس بعالم بالفتيا ؟ قال : ” ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن ، عالما بوجوه القرآن ، عالما بالأسانيد الصحيحة ، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة ، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها”([4]).
والشروط السابقة تتلخص في توافر الاجتهاد في المفتي، وهو ما عليه جمهور الأصوليين، ويترتب على توافر شرط الاجتهاد أن فتيا العامي والمقلد الذي يفتي بقول غيره دون اجتهاد منه لا تصح .
وأشار ابن عابدين نقلا عن ابن الهمام أن المفتي هو المجتهد، وهو رأي جمهور الأصوليين : ” وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد ، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية ، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى ، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي ، وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين: إما أن يكون له سند فيه، أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها؛ لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور”([5]).
وتحصيل تلك العلوم إنما هي في المجتهد المطلق، أو ما يعرف بـ( الاجتهاد المطلق)، أما الاجتهاد الجزئي فلا يشترط فيه ذلك. قال الإمام ابن الصلاح:” نما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في المفتي المطلق في جميع أبواب الشرع أما المفتي في باب خاص من العلم نحو علم المناسك أو علم الفرائض أو غيرهما فلا يشترط فيه جميع ذلك ومن الجائز أن ينال الإنسان منصب الفتوى والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض فمن عرف القياس وطرقه وليس عالما بالحديث فله أن يفتي في مسائل قياسية يعلم أنه لا تعلق لها بالحديث ومن عرف أصول علم المواريث واحكامها جاز أن يفتي فيها وإن لم يكن عالما بأحاديث النكاح ولا عارفا بما يجوز له الفتوى في غير ذلك من أبواب الفقه قطع بجوازه الغزالي وابن برهان وغيرهما([6]) .
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أني يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره. وهو قول ابن بطة وغيره من أصحابنا. قال القاضي: ذكر ابن بطة في مكاتباته إلى البرمكي: لا يجوز له أن يفتي بما سمع من يفتي، وإنما يجوز أن يقلد لنفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا. والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد،وهو أصح الأقوال، وعليه العمل. قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشران يقول: ما أعيب على رجل يحفظ عن أحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي بها” ([7]) .
ونقل الإمام ابن عابدين توسط بعض الحنفية، فرأى أن الاجتهاد شرط في الأولوية، وليس شرطا في صحة الفتيا. يقول ابن عابدين:”
( قوله : فصح توليته العامي ) الأولى في التفريع أن يقال : فصح تولية المقلد ؛ لأنه مقابل المجتهد ثم إن المقلد يشمل العامي ، ومن له تأهل في العلم والفهم ، وعين ابن الغرس الثاني قال وأقله أن يحسن بعض الحوادث ، والمسائل الدقيقة وأن يعرف طريق تحصيل الأحكام الشرعية من كتب المذهب ، وصدور المشايخ وكيفية الإيراد ، والإصدار في الوقائع والدعاوى والحجج ، ونازعه في (النهر) ورجح أن المراد الجاعل لتعليلهم بقولهم لأن إيصال الحق إلى مستحقه يحصل بالعمل بفتوى غيره قال في الحواشي واليعقوبية : إذ المحتاج إلى فتوى غيره هو من لا يقدر على أخذ المسائل من كتب الفقه وضبط أقوال الفقهاء ا هـ “. ولكن ابن عابدين رأى أن قبول الفتوى بغير اجتهاد تكون عند تعذر الاجتهاد:” قلت : وفيه للبحث مجال فإن المفتي عند الأصوليين هو المجتهد كما يأتي فيصير المعنى أنه لا يشترط في القاضي أن يكون مجتهدا ؛ لأنه يكفيه العمل باجتهاد غيره : ولا يلزم ومن هذا أن يكون عاميا لكن قد يقال إن الاجتهاد كما تعذر في القاضي تعذر في المفتي الآن فإذا احتاج إلى السؤال عمن ينقل الحكم ، ومن الكتب يلزم أن يكون غير قادر على ذلك تأمل “([8]).
و يصرح ابن الصلاح أن الاجتهاد المطلق لا يشترط في الإفتاء، بل رأى عدم إمكان وقوعه، فيقول :” ومنذ دهر طوى بساط المفتي المستقل والمجتهد المطلق، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة”([9]) .
والذي يبدو لي أن وجوب توافر الاجتهاد من عدمه يتوقف على نوع الفتيا، وذلك على النحو التالي:
الحالة الأولى: أن تكون الفتيا من الأمور التي لا تحتاج إلى اجتهاد جديد لوجود فتيا فيها، أو أن استظهار الحكم لا يتطلب أكثر من معرفته من خلال مراجعة بعض كتب الفقه أو الفتوى، فمثل هذه الحالة لا تحتاج توافر تلك الشروط العلمية كالعلم بالكتاب والسنة والقواعد والمقاصد والعلوم المساعدة ونحوها، وإنما يكفي معرفة الحكم من مواطنه بأدلته، فتكون الفتوى هنا استظهار حكم.
الحالة الثانية: أن تكون الفتيا من الأمور التي تحتاج إلى بذل جهد للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي فيها، فهذه يجب فيها توافر شرط الاجتهاد، ولكن ليس بلازم أن يكون اجتهادا مطلقا؛ إذ هذا ما أندره في عصرنا، والقول بوجوبه يوقع في الحرج، فضلا عن صعوبة تحققه، مما يترتب عليه تعطل الفتيا، بل هو كلام لن يكون له نصيب من الواقع حتى لو اجتمع عليه غالب علماء العصر، فيكون الواجب في مثل هذه الحالة هو الاجتهاد الجزئي.
وهذه الحالة تنقسم – أيضا- إلى نوعين:
النوع الأول: الفتيا في الأمور المستجدة، وهذه تطلب اجتهادا جماعيا، كما تقوم به المجامع والمؤسسات الفقهية، وهذا النوع يتوجب فيه أمران: الأول: توافر ملكة الاجتهاد، والثاني: أن يكون بشكل جماعي، وألا يفتي فيه آحاد المفتين، خاصة فيما يعرف بفتاوى الأمة.
النوع الثاني: فتيا في أمور فردية، فهذه لا تتطلب غير توافر شرط الاجتهاد الجزئي فيمن يتصدى في الفتوى، وقد يكون الأمر المستفتى به هنا حادث، ويحق لآحاد المفتين الاجتهاد في الأمر؛ أو أن الأمر به إشكالية فقهية لا تتوقف الفتوى فيه على استظهار الحكم، وإنما تحتاج إلى نوع من الاجتهاد.
وهذا الاتجاه في بيان حكم الاجتهاد في الفتيا يقوم على اعتبار تحقيق معنى الاجتهاد مع الفصل بين التعريف وبين الشروط، فالاجتهاد هو بذل الجهد والطاقة للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي الظني([12]) ، وهو قاسم مشترك في بيان الحكم الشرعي، لكن قد تختلف الشروط من حالة لأخرى، وبهذا يتم إعمال الاجتهاد على نوع واسع دون تضييق.
كما أنه من المهم أن نشير إلى أن عملية الإفتاء لا تتطلب اجتهادا في كل حالاته، فهناك من حالات الإفتاء مالا تحتاج إلى اجتهاد، كالإفتاء في الأمور القطعية، فوجه الإفتاء هنا هو بيان الحكم المتفق عليه لمن يجهله، أما المسائل الظنية، فهي محل الاجتهاد.
وبجانب ما ذكره الأصوليون في شروط الإفتاء، فلابد أيضا من وجود ملكة الإفتاء عند المفتي، والقدرة على الغوص في الجزئيات، وإدراك واقع الفتوى وخصوصيتها، وأن يكون عنده القدرة على التحليل والتركيب، وأن يستطيع التوصل إلى النتائج عبر المعطيات، وأن يكون نابها معلوما عنه الذكاء وحسن التدبر والتفكر.
كما أنه يجب التفريق بين مقامات الإفتاء، فتولي الشخص منصب الإفتاء الرسمي في بلد ما، لا شك أنه يختلف عن ممارسة شخص للفتوى بشكل أضيق، كالفتيا في المسجد، أو الفتيا في الجامعات والمعاهد ونحوها.
الأول: الحفاظ على أصول الاجتهاد التي لا يختلف فيها، وعدم المساس بها.
الثاني: مراعاة طبيعة الاجتهاد المعاصر، واصطحاب تلك المتغيرات التي نعيشها، فليس من حذق العلم ولا الحكمة أن نسحب شروط فقهاء الأمس على فقهاء اليوم، بما بينهما من تمايز كبير.
ولعل هذا ما قد يكون موضوعا للبحث والدرس لبعض الباحثين في مجال الدراسات العليا؛ ليكشف لنا عن هذا التباين، والحاجة إلى إعادة النظر إلى الاجتهاد وشروطه في عاصرنا، مستفيدا مما كتبه أهل العلم حديثا في هذه القضية، مع إعطائها حقها من الدرس والبحث.