مدار الساعة - تكثر في الرسائل الجامعية العناوين التي تحمل ( الاتجاه الفقهي)، و ( المنهج الفقهي) ، ثم عند قراءة تلك الرسائل، تكون غالبها جمعا للآراء الفقهية، سواء لفقيه بعينه، أو لمذهب فقهي، أو لمدرسة فقهية، وهذا يعني أن هناك خللا حاصلا في الحديث عن الاتجاهات والمناهج الفقهية؛ مما يستلزم منه العروج إلى هذين المصطلحين، وبيان الدلالة الاصطلاحية لهما؛ إسهاما في ضبط استعمالها عند الباحثين والعلماء.
وهذا التعريف يرتكز على طريقة الاجتهاد الفقهي، أو كيفية الإفادة من المصادر والأدلة. وهو جزء أصيل من المنهج، ولكن لا يعد وحده المعبر عن المنهج.
يرى شيخنا الدكتور محمد بلتاجي حسن – رحمه الله- أن المنهج الفقهي أعم من مصادر التشريع، ولمعرفة منهج الفقيه يجب الإجابة عن ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: ما مصادر الفقيه التي يستقي الأحكام التشريعية منها؟ وكيف حدد مفهوم كل مصدر مما أخذ به؟ وذلك لاختلاف المفاهيم حول المصدر الواحد، مما يؤدي إلى اختلاف نتائج استنباط الأحكام التفصيلية .
السؤال الثاني: ما موقفه من المصادر التشريعية التي عرفت في عهده، ورفض الأخذ بها؟
السؤال الثالث: ما موقفه من نتائج اجتهاده؟ هل يعتقد أنها الصواب القطعي؟ هل يرجع عنها إذا تبين له اجتهاد آخر؟ وما موقفه من نتائج اجتهاد غيره، هل يعتبرها خطأ قطعيا؟ وهل يجيب عن كل ما يسأل عنه؟
ومن حصيلة الإجابات عن هذه الأسئلة يتكون ( منهج الفقيه) أو (خطته التشريعية) ([5]) .
أما السؤال الثالث وهو موقفه من اجتهاده واجتهاد غيره، فهذا – في ظني – لا يعد من أركان المنهج، بل هو نقطة جزئية فيه، خاصة أن غالب الفقهاء يرون صحة صواب رأيهم مع احتماله الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، فالموقف من اجتهاده واجتهاد غيره ربما نعده ضابطا في المنهج، ولكنه ليس ركنا من أركانه.
تعريف الدكتور علي جمعة للمنهج الفقهي:
يجعل الدكتور علي جمعة علم ( أصول الفقه) مرادفا للمنهج الفقهي، فيقول:
” الاجتهاد أصل من أصول الفقه كعلم يعد المنهج العلمي عند المسلمين.
فأصول الفقه باعتباره لقبا على ذلك العلم في تعريف مدرسة الرازي الأصولية، هو:
معرفة دلائل الفقه إجمالا، وهو الأصل الأول.
وكيفية الاستفادة منه، وهو الأصل الثاني.
وحال المستفيد، وهو الأصل الثالث.
ولذا سمي هذا العلم بلفظ الجمع ( أصول)، دون لفظ المفرد ( أصل).
وأصول الفقه بهذا يبحث عن : مصادر البحث، وعن كيفية الاستفادة منها، أي: طرق البحث، وعن شروط الباحث، وهو عين ما دعى([6]) إليه الغرب عندما سرى المنهج العلمي من فكر المسلمين وعلومهم إلى مفكريهم([7]).
بل ينص الدكتور علي جمعة على أن ” علم أصول الفقه هو المنهج الذي يوازي المنهج التجريبي في عالم الفيزياء، فأصول الفقه هو منهج المسلمين في الوصول إلى الحقيقة أو الحق في مجال الوحي”([8]).
الرأي المختار في تعريف المنهج الفقهي:
فالمنهج الفقهي كما أرتضيه هو: معرفة موقف الفقيه المجتهد من مصادر وأدلة الأحكام، عملا وتركا، وبيان خطته التشريعية في تشغيل المصادر المعمول بها عنده، بحيث يظهر أثر ذلك في اجتهاده باضطراد.
فالمنهج له ركنان أساسان:
الأول: مصادر البحث.
الثاني: طرق البحث.
أما البحث في حال المجتهد، فهو شرط من شروط المنهج الفقهي، وبيان موقف الفقيه من اجتهاداته واجتهادات غيره هو ضابط من ضوابط المنهج.
وعلى هذا، فمن العسير أن نقول: إن هناك منهجا – بالمعنى الاصطلاحي- لدار الإفتاء المصرية في الإفتاء بشكل عام، ولا ينقض هذا ما بينا لها من أصول، فقد يكون للفقيه خطة فكرية معينة، لكنها لا ترتقي إلى مستوى المنهج، ويدعمنا في ذلك ما قاله شيخنا الدكتور محمد بلتاجي :” هناك بعض الجهود الفقهية لبعض فقهاء القرن الثاني لا تكشف – فيما بقي بين أيدينا- عن مناهج تشريعية بالمعنى الذي تقدم …، غير أنها على وجه العموم- وكأي فكر بشري آخر- تصدر عن خطة فكرية معينة”([9]).
وإن كان من مفت – ممن هم محل الدراسة- له منهج فقهي، فهو الدكتور علي جمعة، ولكننا لا يمكن لنا اعتبار هذا المنهج معبرا عن مؤسسة دار الإفتاء المصرية، إلا في زمن توليه، وفي الفتاوى التي تصدر منه شخصيا دون الفتاوى التي ربما خرجت عن أقسام بالدار يقوم عليها بعض تلامذته.
ولعل السبب في عدم اعتبار منهجية لدار الإفتاء – بالمعنى الاصطلاحي- أن غالب من تولي المنصب – ممن هم محل الدراسة- لم يكونوا أصوليين، بل كانوا إما فقهاء، كالشيخ جاد الحق – رحمه الله-، أو الدكتور نصر فريد واصل، فغلب عليهم الجانب الفقهي دون المنهج الأصولي، أو لأنهم لم يتخصصوا في الفقه والأصول بطريقة عميقة، كباقي المفتين غير من ذكر.
والاتجاه الذي ارتضيته هنا في الفتاوى المقصود به: أهم السمات البارزة والغالبة في معالجته للفتاوى، تلك التي تميز بها عن أقرانه، وغلبت على فتاويه، كما أنه يتمثل في أهم القضايا الكبرى التي كان لها تأثير على فتاوى كل مفت.
كما يجب الانتباه إلى أنه من الضروري الالتفات إلى التمايز بين الاتجاهات في الاجتهاد الفقهي، والاجتهاد الإفتائي، مع كون الأولى هي الأصل الغالب الذي يعتمد عليه، لكن لا تنصهر اتجاهات الإفتاء في اتجاهات الاجتهاد الفقهي، فالتمييز بين الفقه والفتوى يوجب التمييز بين الاتجاهات في كل منها.