مدار الساعة - في ظل جائحة كورورنا وغلق المحلات التجارية، انتشر البيع على مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يعرض البائع سلعته، ويضع سعرها، أو يخبر البائعُ المشتريَ بالسعر إن أراد شراءها، وهو جائز باتفاق الفقهاء.
ولكن أصبح في الغالب الأعم اشتراط البائع أجرة لتوصيل السلعة تحسب على المشتري يدفعها زيادة على ثمن السلعة، ويقوم البائع بتوصيل السلعة، أو يتفق مع سائق لتوصيل السلعة، وغالبا ما يزيد البائع على ثمن التوصيل، بحيث يعطي السائق أجرة التوصيل، ويأخذ هو جزءا من أجرة التوصيل التي أخبر بها المشتري.
والمذكور فيه مسألتان:
المسألة الأولى: من يتكفل أجرة توصيل السلعة، البائع أم المشتري؟
المسألة الثانية: أخذ البائع جزءا من أجرة التوصيل المعلن عنها بعد إعطاء السائق أجرته المتفق عليها معه.
المسألة الأولى: أخذ الزيادة على الأجرة:
أما عن الحالة الثانية التي يشترط فيها البائع أجرة لتوصيل السلعة بثمن معين، ثم يتفق مع سائق لتوصيلها، بأجرة أقل ويأخذ هو الزيادة على الأجرة الحقيقية، فمثل هذه الزيادة يحرم أخذها، فهي زيادة محرمة، والأصل أن يكتفى بثمن التوصيل فقط دون زيادة.
والدليل على ذلك:
أن أخذ زيادة على السعر المعلن بدعوى توصيل السلعة، هو من الغش المحرم، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه:” من غش فليس منا”. رواه مسلم.
كما أنه من أكل الناس بالباطل؛ ووجه الباطل أنه ليس جزءا من الثمن ولا جزءا من أجرة التوصيل. وقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
كما أن كسب الزيادة على الأجرة الحقيقية مبني على الخداع وعدم البيان، وهو محرم باتفاق، فقد روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن حكيم بن حزام – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ، أو قال: «حتى يتفرقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما» . وفي رواية أخرى للبخاري: «فإن صدق البيعان وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، فعسى أن يربحا ربحا ما، ويمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة: منفقة للسلعة، ممحقة للكسب» . أخرجه الجماعة إلا «الموطأ».
المسألة الثانية: أجرة نقل السلعة:
أما أجرة نقل السلعة، فلم يرد فيها نص من كتاب أو سنة، فهي من حكم المسكوت عنه، الذي يخضع لاجتهاد الفقهاء بما يحقق المصلحة والعدل بين البائع والمشتري.
وفي صور نقل السلعة لابد من تحرير محل النزاع.
فالسلع الصغيرة التي يذهب المشترون إلى المحلات التجارية لشرائها؛ وجب نقلها عليهم، وذلك لعدة أمور:
أولا- أن نقل السلعة اليسيرة لا يحتاج إلى وسيلة نقل.
ثانيا- أن المشتري هو من قصد البائع في محله، وهو الطالب أولا، فيلزم بأخذ سلعته.
أما إذا كانت السلعة كبيرة لا يمكن نقلها إلا من خلال وسائل نقل مخصصة؛ فقد جرى العرف أن يكون ذلك على البائع، وهذا ما تفعله غالب المؤسسات التجارية.
يبقى الإشكال في نقل السلعة المشتراة من خلال الشراء على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
والأصل في مثل هذه الحالة أن يكون نقل السلعة على البائع، بناء على دليل (العرف)، فـ” التزامات عقود المعاوضة يحددها العرف، فيقال: السمسرة على البائع، ورسوم البيع على المشتري، وتوصيل السلعة على حساب البائع إلى بيت المشتري في بعض المبيعات”[1]. ” والأصل أن البائع هو من سيتولى توصيل السلعة”[2].
وبناء هذا الأصل على أمور:
الأول: أن البائع هو من روج لسلعته، ودعا الناس إليها، وأوصل الإعلانات لهم من خلال وسائل الدعاية، فهو البادئ في رغبة البيع.
الثاني: أن البائع لا مكان له لذهاب الناس لاستلام السلعة، وقد جرى العرف أن يكون للبائع مكان توجد فيه السلع، يراها الناس ويشترونها منه في ذلك المكان.
الثالث: أنه لا يجب إلزام المشتري بإيصال السلعة له مقابل أجرة، بل له أن يأخذ هو سلعته من البائع، وهو من لزوم ما لا يلزم، ولزوم ما لا يلزم باطل، ولا إلزام بين العقدين، العقد الأول: وهو عقد البيع والشراء، والعقد الثاني، وهو عقد وكالة لتوصيل السلعة، ولا تلازم بينهما.
لكن إن اشترط البائع على المشتري أن يكون نقل السلعة عليه؛ فالشرط أقوى من العرف.
قال الخرشي المالكي: ” ولو تعارض الشرط والعرف في جميع ذلك فيتقدم الشرط على العرف، ولو جاهلين به؛ لأن الشرط بمنزلة العرف الخاص”[3].
وعلى هذا، فيجب التفريق بين عقد البيع، الذي هو بيع سلعة بثمن معلوم، وبين عقد الوكالة، وعقد الوكالة من العقود الجائزة، فلا يجبر المشتري أن يدفع ثمن توصيل السلعة، بل يكون مخيرا، إما أن يوصل البائع السلعة مقابل أجرة، وإما أن يتسلمها المشتري بنفسه، وإما أن يوكل المشتري من يتسلم السلعة من البائع.