ما لم نستدع على الفور موازين العدالة في بلادنا لكي تنتصب وترتفع أمام الناس، فيأخذ الجميع حقهم من مغانم الدولة كما يدفعون ما عليهم من مغارم وضرائب، فإن كل ما نتداوله حول القانون الحاكم والوطنية الحقة التي تتطلب التضحية والانتماء والعيش المشترك، وكل ما يخطر في البال من قيم تعلمها شبابنا وتربوا عليها من نعومة أظافرهم ستكون أمام امتحان خطير، وأخشى ما أخشاه أن يسألنا أبناؤنا عن كل ما قلناه لهم وأقنعناهم به من قيم العدالة والمساواة وهم يرونها تنكسر أمامهم يوما بعد يوم بفعل ما يرتكبه بعض المسؤولين من تجاوزات هنا وهناك.
لو سألتني : بماذا يحلم الأردنيون اليوم .. ؟ سأجيبك بكلمتين: دولة عادلة. والعدل هنا متعلق بسيادة القانون، ولا يمكن لأي قانون ان يحظى «بالعدالة» والسيادة إلاّ إذا كان إفرازاً للديمقراطية الحقيقية التي تضمن مسألتين: إحداهما ان يتولى الناس إدارة شؤونهم من خلال ممثلين يختارونهم، ومؤسسات يشاركون فيها على أساس المواطنة التي تقرر لهم المساواة في الحقوق والواجبات، اما المسألة الثانية فهي ذات بعد أخلاقي، حيث لابدّ ان تستند هذه الديمقراطية لمرجعية أخلاقية ترقي بسلوك الناس وتهذب طباعهم، وهذه المرجعية هي «روح» الديمقراطية التي تحررها من صفتها «الآلية» وتسمو بها فوق «المرجعيات» المختلفة، وتستند المرجعية الأخلاقية هنا الى «مشتركات» المجتمع التي تتوافق عليها أغلبيتهم على أساس احترام العقائد والأفكار والنظام العام.
الدولة العادلة بهذا المعنى تضمنته الورقة النقاشية السادسة لجلالة الملك، وهي تستمد «مدنيتها» من مدنية المجتمع، لأنه لا يوجد في خبرتنا التاريخية دولة دينية أصلاً، كما ان بلدنا لم يقم على حكم عسكري، وبالتالي فإن الدولة المدنية كما وصفها الملك هي دولة مؤسساتية وليست علمانية، مؤسساتية ينتصر فيها القانون للجميع، وغير علمانية حين ينصرف هذا المصطلح الى خصومة مع الدين، او حين يوظف لحساب طبقة سياسية ضد اخرى.
لكن الأهم من حسم سؤال النظرية للدولة المدنية هو الإجابة عن سؤال التطبيق، فالبعض –كما ذكر الملك في الورقة النقاشية - يظن أنهم الاستثناء الذي يعفى من تطبيق هذا المبدأ (سيادة القانون) على ارض الواقع،- هنالك بالطبع امثلة كثيرة على ذلك، كالتجاوزات التي تحدث في التعيينات الحكومية بسبب الواسطة والمحسوبية، او تساهل بعض المسؤولين في تطبيق القوانين مما يفسح المجال للتساهل الذي يقود لفساد اكبر، وإضعاف قيم المواطنة ايضاً، زد على ذلك ما أصاب الجهاز الإداري من ضعف، وما يحتاجه مرفق العدالة من جهود لتحسين أدائه وتحصينه.
هذه الوقائع التي أشار اليها الملك تشكل «مربط» الفرس الذي يستدعي التوقف وإعادة النظر، فما هي الوصفات التي يمكن من خلالها ان «نعالج» هذا الخلل الذي أصاب «حركة» الدولة في صميم «مدنيتها»؟ الإجابة كما يطرح الملك عنوانها «سيادة القانون»، وهذه السيادة تقتضي التزام الحكومات والمؤسسات الرسمية ويقظة المجتمع ايضاً، فلا «مدنية» بدون إحساس الناس وقناعتهم بإن الدولة التي ينتمون اليها هي «للجميع»، باعتبارهم مواطنين فيها وليسوا رعايا.
ولا مدنية بدون وجود مشروع وطني بهوية جامعة يلتقي عليها الأردنيون من وحي إدراكهم ان هذا المشروع يمثلهم، وانه ضرورة لتحقيق أهدافهم ومطالبهم، وهو ( المشروع) وطني وتاريخي بمعنى واحد، يستمد وطنيته من الانتماء للأردن الوطن، كما يستمد تاريخيته من اللحظة التاريخية التي تستوجب حسم الأسئلة المعلقة والمتعلقة بالهوية والمصالح والارتباطات والعلاقات، بإجابات واضحة لا تقبل اللبس، من اجل التأسيس لإصلاح سياسي حقيقي ينقلنا من دائرة الشك إلى اليقين ومن مجرد الإحساس بالخطر الى مواجهته فعلا. الدستور