مدار الساعة - الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه، وبعد..
ولذلك كانت نعمة الإيمان أجل النعم، أخرجك الله بها من ظلمات الكفر والشرك إلى أنوار الإيمان والتوحيد؛ فعرفت إلهك وخالقك، وعرفت نبيك ومرشدك، فتنور قلبك، وانفسح صدرك، وعشت حياة الهناءة والسعادة لما تعلق قلبك به وحده، ولم تلتفت إلى غيره، وانقطع طمعك في حصول النفع أو دفع الضر إلا من جهته.. فحفظك في دنياك ونجاك في آخراك.. وهل بعد هذا فضل أو نعمة إلا دوام رضاه؛ ولذلك امتن الله على أهل الإسلام بهذه النعمة أشد الامتنان، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات:17).
فلم يكن غريبا أن يكون الأمن مطلبا يطلبه المخلصون لبلدانهم وأهليهم؛ كما قال إبراهيم عليه السلام: {رب اجعل هذا بلدا آمنا}(البقرة)، وأن يكون نعمة يمتن الله بها على من وهبهم إياها كما في قوله تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}(قريش)، وقال أيضا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}(العنكبوت:67).. في آيات كثيرة، تدل على أن الأمن نعيم من نعيم الدنيا.
وقد روى الإمام الترمذي بسند حسن عن ابن عباس: أنه سأله سائل: يا أبا العباس هل للقاتل من توبة، فقال كالمعجب، ماذا تقول مرتين أو ثلاثة، فقال ابن عباس سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: [يأتي المقتول بدمه متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى يشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش فيقول لرب العالمين هذا قتلني فيقول الله للقاتل تعست ويذهب به إلى النار].
وعن رفاعة بن شداد قال: كنت أقوم على رأس المختار بن عبيد الكذاب فلما تبينت كذبه هممت والله أن أسل سيفي فأضرب به عنقه حتى ذكرت حديثا حدثنا به عمرو بن الحمق قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [من أمن رجلا على نفسه فقتله أُعطي لواء الغدر يوم القيامة](رواه أحمد والنسائي).. وفي لفظ عند أحمد والطحاوي بسند صحيح: [من ائتمن رجلا على دمه فقتله فأنا منه بري، وإن كان المقتول كافرا]، وفي لفظ في المصنف: [أيما رجل أمن رجلا على دمه فقتله فقد برئت من القاتل ذمة الله وإن كان المقتول كافرا].
جاء في "أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي: "إن القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلا قتلتك، أو ضربتك، أو أخذت مالك، أو سجنتك، ولم يكن له من يحميه إلا الله، فله أن يقدم على الفعل، ويسقط عنه الإثم في الجملة، إلا في القتل، فلا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره؛ ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به"(3/ 160).