بداية هذه ليست دعوة إلى عسكرة السياسة، مع أني أدرك تماماً بأن هذه المقالة سوف لن تلاقي استحساناً لدى بعض النخب السياسية التي ترى ضرورة بقاء دبلوماسية واستراتيجة وفكر العسكر في إطار القوات المسلحة حتى بعد أداء شرف الخدمة والخروج الى الحياة العامة، والانخراط في عداد المواطنين... بل أن بعض النخب السياسية يضع العراقيل السياسية والإدارية مغلفة بالاحترام والتقدير – واستثني البعض الصادق في احترامه وتقديره منها والراغب في توظيفها التوظيف الصحيح - أمام دبلوماسية وفكر واستراتيجيات النخبة العسكرية التي تحولت إلى الحياة المدنية من أجل الحيلولة دون الوصول إلى الصفوف الأولى في القيادة السياسية في الأردن.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أمرين مهمين في الظروف الصعبة التي يعيشها أردننا العزيز هما : الأول شرف الجندية، والثاني جرأة طرح صانع القرار في تقديم النصيحة والمشورة، وتقديم حلول عملية تسند متخذ القرار وتعينه على اتخاذ قرارات تصب في مصلحة الدولة العليا، وتخدم البلاد والعباد... أما شرف الجندية فهو شرف لا يدانية شرف... لأن الجندية شجاعة ورجولة وتضحية وإيثار وافتداء للوطن بأغلى مايملك الإنسان دون الالتفات إلى حسابات الربح والخسارة... على جانب آخر تكونت على مدى الزمن ألفة روحية وامتزجت كيمياء وطنية اجتماعية بين الوطن والمواطن والجند والقيادة في الأردن، وقد تأصلت هذه الكيمياء في نفوس ابناء المجتمع الأردني على الإطلاق... دليل ذلك هذا الارتباط المترسخ بأواصر من المودة والمحبة والفخر والاعتزاز بقواتنا المسلحة الباسلة، وبمنسوبي الجيش العربي الأردني وأجهزتنا الأمنية سواء أكانوا في شرف الخدمة أم في صفوف المتقاعدين، ذلك لأنهم لم ولن يخرجوا من جلودهم تحت اي ظرف.. وظلوا وسيبقون على الوعد والعهد مخلصين لمواطنيهم ولأردنهم المنيع ولقيادتهم الهاشمية الرائدة، وهم جاهزون لتلبية نداء الوطن في أية لحظة سلماً أم حرباً وتحت أي ظرف.... فالعسكر عسكر ما داموا في شرف الجندية... صوت الوطن وسوطه وسياجه القوي المتين في وجه المعتدي والباغي والظالم والحقود والمفسد، يؤدون الواجب بكل أمانة وتفان وإخلاص، غير ملتفتين إلى حطام دنيا، وغير منتظرين شكراً من أحد، لكنهم مواطنون متميزون بعد التقاعد وأداء شرف الخدمة في السلك العسكري، ولديهم من الخبرة والكفاءة والعلم والفهم الاستراتيجي السياسي والعسكري ما يمكنهم من الانخراط بقوة في سلك النخبة إلى جانب إخوانهم من النخبة السياسية الحاكمة وغير الحاكمة من الأردنيين الذين كرسوا حياتهم لخدمة الوطن بأهله وشعبه.
ويمكنني القول هنا بأن هذه النخبة العسكرية التي أنهت شرف الخدمة العسكرية هي نخبة مميزة ومتميزة ومتمكنة تنتظر من البيئة السياسية والإدارية في الأردن استغلال هذا التميز وتوظيفه توظيفاً صحيحاً بعيداً عن أطر الفهم الضيقة والمصالح الشخصية، فالنخبة العسكرية العاملة أو المتقاعدة زاهدة في المناصب، وقلما يسعون إليها أو يلهثون وراءها... لأنهم اكتووا بنار المسؤولية الحقيقية، ويدركون جمر المعاناة وكبر الهموم في رقبة المسؤول
أما الأمر الثاني فإن العسكر بعد التقاعد ورثوا من شرف الجندية الجرأة في الطرح، والشجاعة في تقديم النصح والإرشاد للقائد بعد إجراء تقدير موقف مدروس، حتى لو خالف هذا الطرح رؤية القائد، لأن كل طرح يخضع للمناقشة والتدقيق والتمحيص، فإن صح أُخذ به وإن لم يصح ترك الأمر إلى خيارات أخرى وبدون تحرج... فمصلحة الوطن وبخاصة في الظروف التي يمر بها بلدنا تقتضي ممن يحمل شرف المسؤولية سواء أكانوا متقاعدين من النخبة العسكرية أم من النخبة السياسية وبخاصة في مجلس جلالة الملك ( الأعيان) أن يقدموا فكراً ناضجا مدروساً غير هيابين، فالأوضاع لاتحتمل التردد في تقديم أفكار تخدم الوطن ولا التواري خلف التمسك بالكراسي في مجلس جلالة الملك.
لقد أثبتت خيارات القيادة الهاشمية السياسية نجاعتها عبر سني عمر الدولة الأردنية التي وصلت إلى مدة القرن، حيث قام الكاتب بإجراء بحث علمي قبل عدة سنوات قدم فيها المؤسسة العسكرية الأردنية كأنموذج متفرد عن النماذج العسكرية في كثير من دول العالم، وهذا الأنموذج الأردني يختلف مع النماذج التي طرحها المنظرون السياسيون، فهي مؤسسة ملتزمة بأبجديات العسكرية من حيث النظام والطاعة والاحتراف العسكري، لكنها من جانب آخر حازت على ثقة القيادة السياسية الممثلة بالقيادة الهاشمية التي أحسنت توظيف إمكانات وكفاءات واستراتيجيات ودبلوماسية هذه النخبة ذات الخلفية العسكرية، ودفعت بها لتصبح نخبة سياسية ناجحة بامتياز في خدمة الوطن، وذلك إيمانا من القيادة السياسية العليا بأن المناصب العليا في مكان صنع واتخاذ القرار ليست مشيخة وليست وجاهة أو ترضية... لكنها مسؤولية تستند إلى فكر استراتيجي وإلى معرفة وخبرة وكفاءة وعلم، توظف جميعها لتحقيق الأهداف العليا للدولة ولخدمة المصالح العليا للدولة الأردنية، وقد اثبتت الدراسة التي أجراها الكاتب نجاعة ونجاح المؤسسة العسكرية في تكوين النخبة السياسية الحاكمة في الأردن خلال فترة الدراسة من (1989 – 2019)، وقد توصلت إلى النتائج الآتية:
01 على صعيد مجلس النواب. شكّلت النخبة السياسية القادمة من البيئة العسكرية ما نسبته (18.48%) من أعضاء مجالس النواب من المجلس الحادي عشر وحتى الثامن عشر، وهذا رقم يعطي مؤشراً قوياً على مدى المساهمة في وضع التشريعات واتخاذ القرارات السياسية في مجلس النواب.
02 أما على مستوى منصب رئيس الوزراء. فقد شكّل (5) رؤساء وزارات من ذوي الخلفية العسكرية (9) وزارات من أصل (25) وزارة، حيث بلغت نسبة هذه الوزارات (36%) من الوزارات التي شكلت خلال الفترة من 1989 – 2019، وهذا يعطي مؤشراً قوياً على قدرة وإمكانات العسكريين المتحولين للسياسة بعد التقاعد على قيادة العملية السياسية بكفاءة عالية جداً.
03 أما على مستوى منصب الوزير. فقد شكّل الوزراء القادمون من النخبة العسكرية ما نسبته (12.33%) من الوزراء خلال فترة الدراسة.
04 على صعيد التعيين في مجلس الأعيان. فقد شكل الأعيان من ذوي الخلفية العسكرية ما نسبته ( 22.5%) من مجموع أعضاء مجالس الأعيان من السادس عشر وحتى السابع والعشرين.
05 على صعيد مجلس الأعيان الحالي 2020. جاء اختيار جلالة القائد الاعلى يوم الأحد الموافق 21/9/2020 لواحد وعشرين (21) من النخبة العسكرية المتقاعدة منهم ثلاث إناث دعما لدور المرأة الأردنية، وذلك ليكونوا أعضاء في مجلس الأعيان أي ما نسبته (38%) جاء هذا القرار ليتوج نجاعة الخيارات الهاشمية.... إن النسب أعلاه جديرة بأن تُرفع لها القبعات، حيث كرّست هذه النخبة عمرها وعلمها وخبرتها لخدمة النظام السياسي الأردني وقيادته الهاشمية الذكية... إنه نضج القرار وحكمته ورشده... شكرا جلالة سيدنا على الثقة باستراتيجية ودبلوماسية العسكر...
* لواء ركن متقاعد ومدير التوجيه المعنوي الأسبق والملحق العسكري الأردني في القاهرة الأسبق واستاذ العلوم السياسية (محاضر غير متفرغ) في عدد من الجامعات الأردنية منها الجامعة الأردنية الجامعة الهاشمية من عام 2011 - 2019