من أصعب الأمور على الإنسان وربّما أقساها أن يعيش حبيس الماضي أو أسير الذكريات، فو يعيش حاضره من خلال تنفّسه لماضيه، كإنسان أصابه مرض في ذاكرته، فما عاد يتذكر الأمور الحديثة، لكنه لا ينسى الأمور التي حصلت في الماضي السّحيق.
عندما يسأله ولده مثلا: أي جامعة أسجّل؟ يجيب: سقى الله أيام جامعة دمشق، كان يدرّسنا الدكتور الفلاني رحمة الله عليه، وكان لنا معه قصص وحكايات، وتبدأ القصص التي لا تنتهي، ولم يتحصّل الولد على جوابه.
فإن قيل له: أريد الزواج، يقول: عندما رأيت والدتك لأوّل مرة أعجبتني، وتبعتها إلى عين الماء في قريتنا الصغيرة، ولاحظني الشباب فهجموا عليّ ووليتُ هاربا...الخ.
هل فعلا يُصاب الإنسان في وهن في عقله بحيث يصعب عليه أن يعيش الحاضر؟ أم أنّه هروب من وحشية الحاضر إلى الزمن الماضي الجميل؟ وما الجميل فيه؟ لا يوجد هواتف نقالة أو ذكية، ولا حتى إنترنت، الكهرباء تنقطع وكذلك الماء، والتدفئة صعبة، ولا مكيفات في الصيف، والمواصلات تنقطع مع أذان المغرب، والناس تقف في أدوار وزحام، المدارس بعيدة والجامعات قليلة، أين السعادة في كل هذا؟ ربّما البساطة سعادة في حدّ ذاتها، كالأكلة الخفيفة البسيطة تؤكل وتهضم بسعة. أما التعقيدات التي طغت على الحياة جعلت منها خلطة ثقيلة، وطعاما يعسر هضمه، فما عاد يشعر البعض بالسعادة على الرغم من كل وسائل الراحة والرفاهية.
ربما التغير في هذا الإنسان هو السبب في رحيل البعض إلى الماضي والجلوس بين جوانبه، ليشعر نفسه بدفء الذكريات، وأمان الزّمن الذي كان الإنسان فيه إنسانا.
الدستور