منذ سنوات وعبر كل المنابر تتعالى الأصوات مطالبة بضرورة تتبع بؤر الفساد واجتثاثه باعتباره المعيق الأساسي لتطور البلاد وخروجه من أزمته الاقتصادية. في العشرية الأخيرة أو الربيع العربي كان موضوع الفساد المحرك الأبرز للحركات الاحتجاجية في العالم العربي والأردن منها.
لا يمر يوم إلا ويحضر الحديث عن الفساد في مجالسنا؛ يستوي في ذلك المواطن العادي الذي يعتمد في كثير من أحكامه على الإشاعات والروايات الشفهية أو ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي والنخب السياسية التي تستند لما ينسب لبعض المسؤولين وبالأخص السابقين منهم بعد مغادرتهم الوظيفة أو فقدانهم الأمل بالعودة فتنال روايتهم شيئا من المصداقية باعتبارهم شهود عيان خبروا الأمور من الداخل وهذه من آفات العلاقة الانتهازية التي تكرست في الإدارة العامة التي ربطت الانتماء بالموقع الوظيفي.
تقرأ وتسمع روايات وقصصا عن ضخامة المبالغ في قضايا الفساد فيُخيل لك بأن الاقتصاد الأردني يعادل اقتصاد دولة من مجموعة العشرين ذات الاقتصادات الكبرى. بينما نعرف جميعاً أن الأردن بلد موارده محدودة ويرزح تحت مديونية مرتفعة، حيث الرواتب والصحة والتعليم تستهلك موازنته العامة التي تعتمد على الإيرادات من ضرائب ورسوم جمركية ومنح دولية.
لذلك تبدو المهمة الأصعب الحديث عن الفساد من زاوية مختلفة ومغايرة لما ينشر ويتداول عن قصص الفساد هذه الأيام.
لكن الاستدراك هنا مهم: هل هذا الانطباع ظالم وغير موضوعي؟ بالطبع لا؛ فالأردن بلد لا يختلف عن بقية دول العالم الثالث وهو مصنف على مدركات الفساد العالمية حيث يتقدم أحياناً ويتراجع أحياناً أخرى. وهناك قضايا فساد كبرى منظورة أمام القضاء.
وطالما أن هناك أنشطة اقتصادية ومشاريع وإمكانية للتهرب الضريبي واستغلال للنفوذ والموقع وتراخ وتردد في التعامل مع أي شبهة ضمن القانون فمن الطبيعي توافر بيئة مناسبة للفساد تنمو وتنتعش عندما تغيب الرقابة؛ وتتراجع وتضمحل وتختفي عندما تفرض الدولة سطوتها بموجب القانون.
الانطباع السلبي يسيطر على الناس، وللأسف هذا ليس داخليا فقط بل أصبح متداولا عربيا تحت عنوان عريض هو أن البلد غارق في الفساد بأشكاله المختلفة سواء كان مباشراً بالاعتداء على المال العام أو التهرب الضريبي أو التحايل الجمركي أو استثمار الوظيفة العامة أو غسيل الأموال، وفوق كل هذا الفساد الإداري الذي يعتبر البوابة الرئيسية لكل ذلك.
وإذا لم يجتث من جذوره فلا داعي لكل الحديث عن مكافحة الفساد إذ أن ذلك سيبدو فائضا عن الحاجة إذا لم نقتنع أن وراء كل قصة تغول على المال العام فساد اداري بائن بينونة كبرى.
بنفس الوقت علينا التنبه لخطورة الاتهامات المسبقة وإطلاق الأحكام واغتيال الشخصيات سواء كانت شخصية عامة ولها حضور سياسي أو مواطنا عاديا دون دليل، فهذا جريمة أخلاقية لا تقل خطورتها في معناها الاجتماعي عن الفساد بحد ذاته. لذلك يتوجب على الجهات الرقابية وفي مقدمتها هيئة النزاهة ومكافحة الفساد أن تجرم في قانونها إطلاق الاتهامات دون دليل دامغ يؤكده القضاء الأردني الجهة الوحيدة القادرة على الفصل وإصدار الاحكام.
توافر الإرادة السياسية لمحاربة الفساد أمر في غاية الأهمية ولكنه ليس كل شيء إذا لم تتوافر إرادة مجتمعية عقلانية لا تطلق الأحكام المسبقة وتعتمد القضاء مرجعية وحيدة للحكم على كل ما يثار من شبهات.
فالأصل أن يكون الناس متوافقين على أن القضاء ركيزة من ركائز الدولة الأردنية وهو سلطة مستقلة ومن عناوين الاطمئنان والاستقرار وخلاف ذلك سنظل ندور في حلقة مفرغة لا نعرف فيها بداية الفساد من نهايته.الغد