انهيار لبنان يعني أن كل ما شهدته المنطقة من ويلات جراء الفوضى التي أصابت دولا عربية ستتكرر على نحو مأساوي.
وصفة التغيير في العالم العربي محكومة بشروط واقعية وموضوعية لا يمكن القفز عنها.
يكفي هنا أن نعاين الحالتين العراقية والسورية، فمع كل محاولة لتبديل شروط الواقع تغرق الدول والمجتمعات أكثر وأكثر بالفوضى والطائفية والإرهاب، وتتحول الأخيرة لحصن منيع يحمي الفساد فيما سلطة القانون تتراجع بشكل متزايد.
الطائفية في لبنان هي مرض مزمن، تفاقمت أعراضه، فسادا وغيابا لسلطة القانون الموحد بعد سنوات الحرب الأهلية.
اتفاق الطائف منح البلاد سنوات قليلة من الهدوء والحكمة، لكن المعادلة الطائفية الحاكمة تمضي كعادتها في تحصيل الامتيازات والتغول على الوطنية والمواطنة لضمان ديمومتها.
في السنوات الأخيرة بلغ الصدام بين المجتمع والطائفية مداه الأوسع. لم يحتج اللبنانيون بهذا القدر من قبل ضد الطائفية، لكن تراجع الأوضاع المعيشية للناس وتغول الفساد والتمادي في توظيف المصالح الوطنية لحسابات إقليمية ودولية، دفع للاحتجاج الشعبي على هذا الصنف من الطائفية المستهترة.
في الاحتجاجات الواسعة التي شهدها لبنان بداية العام، تضافرت عدة عوامل لكبح جماح الشارع الغاضب، كان أهمها غياب البرنامج البديل لحكم الطوائف. فالمحتجون أنفسهم دخلوا في صراع حول أولويات المرحلة ودرجة المسؤولية التي يتحملها ممثل كل طائفة في منظومة الحكم.
ولعب الاقتصاد المترنح من جديد دورا حاسما في هز أركان الحكم الطائفية بعدما بلغ تردي الحال مستوى لم تشهد لبنان مثله في سنوات الحرب الأهلية. حتى المجتمع الدولي الذي تبنى شعارات الإصلاح والتحديث لإخراج لبنان من ورطته بدا منافقا هو الآخر،عندما وضع شروطا سياسية قاسية لمساعدة اللبنانيين، يعلم المانحون قبل غيرهم استحالة تطبيقها في ظل المعادلة الطائفية والحزبية التي تحكم البلاد.
جاء انفجار مرفأ بيروت الرهيب ليقوض ما تبقى من أسس لحكم الفرقاء الطائفيين، فانتفض الشعب الغاضب من جديد، وكان هذه المرة مشحونا بالانتقام والغضب وقد تبدى ذلك في مستوى العنف الذي رافق تظاهرات بيروت في”يوم الحساب”.
لكن ما هي حدود هذا الغضب والانتفاضة الشعبية العارمة؟
الطائفية كأداة حكم في لبنان تواجه امتحانا عسيرا، لكن ليس إلى الحد الذي يقوض أسس وجودها. في حال انتصر منطق الشارع فإن البديل للوضع القائم، دخول لبنان في حالة فوضى بحيث تتقاسم الأحزاب الطائفية والمجموعات الثورية السلطة، وتغرق في اقتتال مديد.
أما الخيار الواقعي للفوضى، فهو إصلاح جوهري للمعادلة الطائفية الحاكمة لا يضرب جوهرها المنصوص عليه في اتفاق الطائف، إنما يخضعها لقواعد معقولة من الحاكمية الرشيدة، تحد من فسادها وسطوتها على القانون، وتعيد للنخبة الحاكمة مستوى من الثقة الشعبية المهدورة.
وهذا يتطلب تنازل رموزها الحالية عن مكانتهم ومواقعهم وجزء من ثرواتهم، ليتسنى للشعب التمتع بقدر عن العيش الكريم.
ربما هذا هو الإصلاح الذي قصده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما تحدث بلهجة قاسية عن تغيير جذري في أسلوب الحكم اللبناني.
الطائفية باقية في لبنان، وأكبر التمنيات هو أن تتغير شروطها، وإلا سنخسر لبنان وتبقى الطائفية فقط.الغد