في عشاء قبل أسبوع، جالست ثلة من النواب الحاليين والسابقين، وكنا في بيت أحدهم الجبلي خارج عمّان، وكان حظي السعيد ان أجلس الى جانب نائب سابق اشتد سخطه في تلك الليلة.
تذكرت سنوات نيابة النائب السابق، الذي لم يكن ساخطا في سنوات السمن والعسل، وكانت الأمور بنظره مثالية، وكلما حدثه الناس، سابقا، عن قضايا الفساد في البلد، كان يرد ان هذه شبهات فقط، وان لا ادلة، وان من لديه وثيقة فلا يجب ان يكتمها، وربما ألقم من يطالبون بفتح ملفات الفساد حجرا حتى يسكتوا، لكنه في تلك الليلة، تحدث بطريقة مختلفة، فلا تعرف ان كان موعد الانتخابات هو السبب، ام ان مزاجه السياسي يضطرب هذه الأيام، لاعتبارات متعددة، فيهمس بكلام -غير المعتاد-، بل وتصحو فيه الرغبة المفاجئة بالمكاشفة الوطنية.
ليس من حقي ان أحلل الدوافع هنا، ولا سبب التحولات، ولولا اللياقة في هكذا لقاءات لكدت ان احرجه وأساله امام الكل لماذا سكت كل هذه السنين، هو وغيره من النواب عن قضايا الفساد، لولا نفر من النواب امتلكوا الجرأة لفتح ملفات محددة، فأصابوا أحيانا!.
يظن هؤلاء ان الناس بلا ذاكرة، فإن تغير الخطاب، صدقتهم الجماهير، ولا يعرف هؤلاء ان اللوم سيكون مضاعفا، اذا شربوا حليب السباع متأخرين، وباتوا يقفون في جبهة المطالبين بفتح ملفات الفساد، وقد كانوا صامتين آمنين طوال سنوات، فأين كانوا سابقا، وكيف يمكن ان نصدق هذه الصحوة المتأخرة، بدون اخضاعها لتأويلات عدة.
هذه قصة باتت مزعجة جدا، لأن النائب يتحدث فقط، وفقا لحالته ذلك اليوم، فإن كان راضيا، سكت عن قصص كثيرة، وان غضب لسبب ما، يحدثك عما لديه من وثائق فساد سرية، لا يريد اشهارها -إن صح امتلاكه أساسا لهذه الوثائق- حول تورط كثرة او قلة في قضايا الفساد، خصوصا، اذا كان معيار تغير موقفه، لا يرتبط بصحوة الضمير بل بمصالحه، وهو يتناسى هنا، انه كان جزءا من منظومة الفساد التي يتهمها اليوم، كونه سكت عليها سابقا، او حتى استفاد منها، في تلك التواقيت، بشكل أو آخر.
حين تناقش كثرة من النواب الحاليين والسابقين، عما اذا أدوا دورهم أساسا في محاربة الفساد، تأتيك الإجابات غامضة، وعلينا ان نعترف ان قلة قليلة، كان لديها القدرة على فتح ملفات فساد، فيما سكت كثيرون، اما حرصا على مصالحهم الشخصية، او مصالح ناخبيهم، او تكيفا مع معادلات مختلفة، يرون ضرورة عدم تجاوزها، وهكذا يصير حديث هؤلاء عن قضايا الفساد متأخرا مثارا للوم والعتب، فلماذا سكتم كل هذا الوقت، ولماذا يراد مني أن اصدقهم؟.
هذه الأيام تنهمر قصص الفساد على رؤوسنا من كل صوب، وكأنها منخفض جوي آسيوي، فساد مالي، قصص تهرب ضريبي، قصص من الجمارك، قصص احيلت الى هيئة النزاهة وهي على صلة بتقارير ديوان المحاسبة، وقصص احيلت الى القضاء، افراط في استعمال الصلاحيات، رشى صغيرة وكبيرة، وهذا المناخ وعر وصعب، لكنه أيضا على ما فيه من إشارات سلبية، يأتي تلبية لمطالب الناس، الذين يريدون محاربة الفساد بكل انماطه، وهو اختبار مفتوح بالاتجاهين، الناس، والمؤسسة الرسمية، لقياس صدقية وقدرة الطرفين.
نحن امام السؤال الأهم حول ما اذا كنا حقا على المستوى الشعبي نريد محاربة الفساد بكل أنماطه، ام لا، واذا ما كانت لدينا القدرة على دعم هذا الجهد، وعدم تلوينه ومحاولة اتهام الذين يحاربون الفساد، أو الخروج عن العناوين العامة المتعلقة باسترداد المال العام، فلا يصح هنا، هذه الازدواجية، حيث شعارنا محاربة الفساد، لكننا نريد محاربته عند غيرنا، من أرواح واشباح، او عند من نراه فاسدا بمعاييرنا الشخصية والذاتية.
اذا فشلت الحرب على الفساد، فإن المسؤولية هنا تقع على الكل، الناس الذين لم يقدموا غطاء الدعم لهذه الحرب، تحت وطأة شكوكهم، والمؤسسة الرسمية التي لم تكمل المشوار حتى النهاية، واختارت التكيف مع المرض المزمن، فإن عبرنا العام 2020 دون نتائج على الأرض، فعلينا مع مطلع العام 2021 ان نعترف اننا فشلنا جميعا.
الفساد مكلف، لكن فشل الحرب على الفساد أكثر كلفة بكل ما تعنيه الكلمة.