كتب: الدكتور محمد تركي بني سلامة
بَعد إِقالة حكومة أَحمد عبيدات في عامِ 1985، التي دقت ناقوس خطر الفساد مبكرًا، وتولي زيد الرفاعي رِئاسةَ الحكومة، لَم تَكترِث حكومته للوضعِ الإقتصادي الُمُتهالك، ولَم تلقِ بالاً لِموضوعِ الفَساد، وإنما اسْتَمرت في سياساتها الإقتِصادية والمالِية التي أَدَت في نهاية المطاف إلى إنهِيارِ الإقتصاد الأُردني، وأَحداث نَيْسان عام 1989. إذ شهدت البلاد هبةً مِن الإحتجاجات والمُظاهرات الغاضِبة أَفضَت إلى إقالة حكومة زيد الرفاعي، وِإعادة طَرح موضوع الفَساد بِقُوة من جديد كَمُعضلة ينبغي أن تُؤخذ بِعين الإعتبار، وعدم إغفالها مِن قِبل الحكومات المٌتعاقبة، والتي عبّرت عَنها أَصوات المُحتجين المُطالِبةَ بِمحاسبة المسؤولين عن الفَساد، واختلاس المال العام أيّا كانَ مَوقعهم.
الحقيقةُ أَن أَبرز الَدوافع التي جعلت الأُردنيين يخرجون إلَى الشارِع في عام1989، وَيكسرون حاجز الصمت مُعبّرين عن حجم سخطهم الهائل ضد سياسات حكومةَ الرفاعي هو: تَفَشي الفَساد في كافة مفاصِل الدولَة، وما أَسفر عَنه من ضياع لمقَدرات البلاد، وبالتالي تَردي أَوضاع العباد.
يرى الكثير من المسؤولين أَنّ أَحداث نَيسان عامَ 1989؛ كانت نَتيجةً مُتوَقعة للفساد الذي تَفاقَم في عهد حُكومة زيد الرِفاعي عن ذي قَبل. إذ يُؤَكد هؤلاء أَنّ حجم الفساد تضاعف، وتعددت أشكالُه بين: فَساد مالي أدَى إلى انتشارِ السرقاتِ، وتفشي الرَشاوى بين المسؤولين، وفسادٍ إداري تَمثل في ضعف المسؤولين، وانعدام المِصداقية لَديهم خاصةً فيما يتعلَق بِمصالح المواطنين وإهمالهم لَها. وسبب ذلك أَنَ الآليةَ المُتبعةَ لِتقلُد المناصِب، وإشغال الوظائف العُليا لا تَقومُ على أساسِ الكفاءةِ وَالجَدارة؛ وَإنما يَتِم التَعيين فيها وِفقًا لِلمَحسوبية.
أغرقت سياسة حكومة زيد الرفاعي البلاد بِديون لا ضرورة لها، دونَ أَن تعي خُطورة هذهِ الديُون على مستقبل المملَكة، كَما أَنهَا أَهمَلَت الشؤون الداخِليةَ لِلبِلاد، وضمّت عددًا من الُوُزراء المَعروفين بتورطهم بالفساد، وسوء استعمالهم للسلطة.
بَعد استقالَة حكومةُ زيد الرِفاعي، وإجراء الإنتخابات المُؤذِنة باستِئناف الحياة النيابيّةَ ؛كان اللافتُ لِلإنتِباه نَجاح الكثيرِ من الإِسلامِيين في تلْك الإِنتخابات، نظَرًا لثقةَ الناس بِهم، وَبُعدهم عَن شُبهات الَفساد، ويعلق رئيس الوزراء الأُردني الأَسبقَ مضر بدران على هذه النَتيجة بِقَوله:"إِنَ السبب في نَجاح الإِسلاميين فُقدانَ الناسُ الثِقَةَ بِالأَشخاص العامِلينَ في أَجهزة الحكومة، بينما لَم يَفقدوا ثقتهم بِأَئمة المَساجدِ، وَالمُتَدَينين بل آمنوا بِاستقامَتهم ،حَيث أَنَ شعاراتَ مُرشحيهِم تَركزّت عَلى مكافحة الفَساد باعتباره مطلباً شعبياً وضرورة ومصلحة وطنيةِ .
بدايات خجولة ومرتبكة لمكافحة الفساد
يمكن القول إن جهود مكافحة الفساد في تلك المرحلة كانت خجولة، ومتراخية ومبعثرة، وقد خلت من أي محتوى لمكافحة جادة للفساد، وبالمجمل كانت محاولات فاشلة، رغم الكلفة الباهظة للفساد ، وقد وثّق المؤرخ الأردني الدكتور علي محافظة هذه الأحداث بشكل مفصّل في كتابه الديمقراطية المقيّدة: حالة الأردن 1989-1999 حيث يروي: عندما قَدم رئيس الوزراء مضر بَدران بَيان حُكومَتِه ِأَمام مجلِس النُواب ، تعَهّد بالبدء بإجراءات قانونِية لِمُكافحة الفساد، فَجاء في البَيانِ الوزارِي: إنشاءُ جِهاز للِرَّقابة وَالتفتيش الإداري، وتقَديم تَشريعٍ لِمُكافَحة الجريمةَ الإِقتصادِيةَ، وَتَقديمُ تَشريعٍ آخر يُلزِم كُل مَنْ يَتولَى المَسؤُولِية السياسِيّةَ، والإداريةَ العليا بإقرارٍ شامل وموثّق بما يَملكُه هُو، وزوجته وأبناؤُه من أَموال مَنقولَة وغير منقولَة وكل تَغير يطرأُ عَلى هذه الأَموال خِلال تسلمه المسؤولية.
كانت قَضايا الفساد أُولَى القَضايا التي أَثارت اهتِمام مجلس النُواب، وعند مُناقشة مجلس النُواب البَيان الِوزاري للحُكومة رَأى أَعضاء مجلس النُواب؛ أَنَ الفَساد كان سببًا أَساسيًا من أَسباب الأَزمة، وكان من ضمن المطالب التي تقدم بها نُواب الحركة الإسلامية إِلَى رئيس الوُزراء لِقاءَ مَنح الحُكومةَ الثقةَ ما يلي:
• وضع قانون (مِن أينَ لكَ هذا ؟) لِمحاسبة الذين حصلوا علَى ثرواتهم بِطُرُقٍ غير مَشروعةٍ، و تطبيق هذا القانون بجديّةٍ وحزمٍ .
• بذل الجُهد وَالوَعد بالعَمل على إِعادَة الَأموال المهرّبة واستِثمارِها في الداخلِ.
وكانت أَهَمَ القَضايا التي شغلَت الرأي العام الأُردني :هي قضايا الفساد المالي والإِداري الَتي تَوّلَت الّلّجنَة المالية ُفي مجلسِ النواب دِراستها وإِعدادَ تقريرٍ عنها، وقَد قَدَمت الّلّجنَةُ تَقريرًا إِلَى المجلس في جَلَسة ٍسريّة عُقِدت في 20/3/1990، وتضمن الَتقرير تَصنيفًا لهذه القَضايا التي لا يَتَسِع المَجال لذكرِها على هذه العُجالَة ، وَلكننا سنقف عند واحدةٍ منها للتَعَرُف عَلى مَدى تَوفُر الإِرادَةَ السِياسيةَ في مُكافحةٍ جادَة ٍللِفساد .
الحَقيقَةُ أَنَ قَضِيةَ مَشروع ِطَريقِ الَأَزَرق – الجفر تُعتبر مثالًا على المُحاوَلات الخَجولَة لِمُكافَحة ِالفَسادِ ؛الأَمرَ الذي يَستلَزِم ُالتَوَقُف َأَمام هذه القَضية، فَعندما أَرادَ مَجلس النُواب مُساءَلَةَ الَمسؤولين عَن تِلك القَضية،ِ وغيرِها مِن القَضايا، انتَخَب الَمجلس لَجنَةً للِتحقيق في قضايا الفَساد في الدَولةِ سُمِيّت "لجنةُ التحقيقات النيابية"، وَتولَى رئاستها النائب لَيث شبيلات، رَكزت اللّجنَةُ عَلىَ التَحقيق في قَضايا الفَساد في حكومة زيد الرِفاعي الأَخيَرة (1985 – 1989)، وَتوَلَت التَحقيق وَجَمْعَ المَعلوماتِ عَن قَضيةِ مشروعِ طَريق الَأزرق – الجفر، وَاتُهِمَ في هذهِ القَضيةِ رئيس الُوزراء الأَسْبق زيد الِرفاعي، ووَزير الأَشغال وَوزير المالية. وَقد اتَهَمت اللّجنةُ النيابِيّةُ حُكومةَ طاهر المصري بِعَرقَلة أَعْمالَها لِرَفضها تَسليمَ اللّجنةَ الملَفات التي طَلبتْها لاسْتِكمالِ تَحقيقاتها في مُختَلف قَضايا الفَساد، وَكانت هَذه العراقيل مِن الأسباب الَتي دَعَت رئيس اللّجنَة اِلنائبُ لَيث شبيلات إلِى الإِستقالَة منْها ، لقد كان الشبيلات يسعى لتسجيل قصة نجاح على صعيد مكافحة الفساد إلا أن جهوده لم تكلل بالنجاح ، وبتقويض تللك الجهود لمكافحة الفساد، تحول البرلمان في السنوات اللاحقة إلى شريك في الفساد حيث تورّط بعض أعضائه في حالات فساد كثيرة ، وأصبح دورهم العمل على تقنين الفساد وحماية الفاسدين .
قَدمت لَجنةُ التَحقيقات النيابيّة تقريرها عن قَضيّة مشروعِ طَريق الأَزرق – الجفر إِلَى مَجلِس النُواب الّذي ناقَشَ التَقريَر في الثالثِ مِن آب/ أغسطس 1992، وَأيّدَ ما جاءَ في تَقرير اللّجنَةِ (54) نائبًا، وَعارَض ما جاءَ فيه (11) نائبًا، وامْتَنَع عَن الإِقتراعِ علَيه سِتَة ُنوابٍ، وغاب عَن الجَلسة سبعة ُنوابٍ.
وَعند التَصويتِ علَى توجيه الإِتِهام لِزيد الرِفاعي وافَق 48 نائبًا علَى توجيهِ الإِتِهام إِلَيه، وَعارَض الإِتِهامَ 17 نائِبًا ، وامتَنَع ستَة نُوابٍ عَن التَصويت، وَغاب عن الجَلسة سبعةُ نُوابٍ، وَبذلكَ لَم يَحصل القَرار علَى ثلُثَي الأَصوات، وَلَمْ يَعُد بِالإِمكان توجيهَ الُتهمةَ لِرئيس الوُزراء السابقِ، وَوافَق ثُلُثا أَعضاءِ المَجلِس علَى توجيهِ التُهمة إلِى وَزيرينِ. وهكذا فَإِن النهايةَ التَي آلَت إِلَيها مُحاوَلاتُ اتِهام رَئيس الُوزَراءِ وبعض الُوزَراء المسؤولين؛ تَدُل عَلَى أَن الإِستجابةَ سَواء لِضُغوطِ النُوابِ أَو مطالب الشّعب فيما يَتعلق بِمُكافحة الفَساد بَقِيّت ضَعيفَة وغير مُشَجِعة ،ولَم يُقَدَر لِهذا المَشروع أَو التوجُهَ أَنْ يَرى النُور في تلك الفَترة، وقَد رافَق تلك المرحلَةَ الكَثير من الإِنتِقادات وَالسَّخط الشَّعبيِ مِن القِوى الوَطَنيَّة التي رَأَت أَنَ اجْهاضَ المَشروعِ خَير دَليلٍ، وَأَكبَر شاهدٍ عَلَى أَنَ هُناكَ شَخِصياتٌ سِياسِيةٌ بِمَنأَى عَن المُساءلَة،ِ ولا مجال لمعاقبتها او وقف فسادها.
وَبشَكلٍ عامٍ يُمكن القَول أَنَ الحُكومات المُتعاقبةَ في عَهد الملك حسين في مرحلَة التحول الديمقراطي عامَ 1989 قَد واجَهَتِ الكَثير من المَتاعب في محاَولَة إِقناعِ الرأيَ العام الُأردنيَ بِجِدية الدَولَة في مُكافَحة الفَساد، فظّل موضوع مُكافحةَ الفَساد من المطالب الشّعبِيَة المُلحّة، وَتَكَرر في خُطَب العَرشِ، والبيانات الوزارية علَى مدَى زَمني طَويلٍ دون تحقيق شيء ملموس عَلَى أَرضِ الواقِعِ، وَفي ظِل هذا الواقِع فَإِنه مِنَ العَبث القَوْل بِوجود إِرادة جادَة في مُكافَحة الفَسادِ، لا سِيّما في ظِلِ تَبرِئَة الكَثير مِن المَسؤولين الّذين كانت لَهُم ملفات مُخزِيّة في إِساءَةِ اسْتِعمال الُسُلطَة.