الحســن بـن طـــلال
اعتدنا كأردنيين أن نردد مقولة تؤكد أن الأردن متحف من شماله إلى جنوبه، وأنه لو سورنا الأردن لكنا نعيش في متحف لا مثيل له، وهذه مقولة صحيحة، فمع أننا نتحدث عن مساحة صغيرة، لكنها ثمينة بما تحويه من آثار للعصور المتعاقبة ما قبل التاريخ، وللعصور التاريخية كلها، وربما كان للموقع المتميز دوره في نشوء كل هذه الحضارات على أرض الأردن، الذي يربط آسيا العربية بإفريقيا العربية، وشبه جزيرة العرب ببلاد الشام والهلال الخصيب.
على أرض الأردن نشأت أقدم قرية في العالم في موقع عين غزال، واقدم المدن في جاوة، وتتابعت الحضارات المحلية من الجنوب إلى الوسط والشمال ما بين الأدوميين والمؤابيين والعمونيين والسريان، وكانت الحضارات العالمية تتطلع للسيطرة على الطرق التجارية التي تربط البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، بالطرق البرية التي تحمل تجارة عرب الجنوب، وفيما بعد عرب الشمال، وعلى أرضنا تميزت حضارة الأنباط الذين وصلوا العالم القديم بتجارتهم، ونجحوا في استثمار المياه للزراعة، وسيطروا على طرق القوافل، وعرفوا كيف يجعلون من ثروات البحر الميت سلعة للتحنيط لدى فراعنة مصر، وكانت عاصمتهم الثانية في “أم الجمال” مركزا للتجارة توازي البترا، فاجتذبت هذه الميزات قوى الغرب الحضارية من يونانية ورومانية، وأشورية وفرعونية، وأحفاد السلوقيين والبطالمة، والفرس، والبيزنطيين، كل هذه الحضارات مرّت على شرقي نهر الأردن، وتركت فيه روائع الآثار التي ما زالت بيننا تشهد على العصور السابقة على ظهور الإسلام، ومن هذه الأرض بدأت الفتوحات الإسلامية، وعلى أرضها تركت الدولة الأموية قصور الخلفاء، وفي كل زاوية منها تركت الدول الإسلامية المتعاقبة مبانيها ومؤسساتها، من مساجد وكنائس وأسواق وبقايا مباني وطرق، في العصور العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية وأخيرا العثمانية، وكل هذه الآثار تشهد على القيمة العظيمة للموقع، وعلى دور الأهالي عبر العصور بالمشاركة في بناء هذه الحضارات، بحيث تحققت مقولة الأردن متحف.
وبمناسبة اقتراب احتفائنا بمئوية الدولة الأردنية التي قامت على هذه الأرض العام 1921م، وجمعت عبقرية أهالي بلاد الشام والحجاز والعراق في إدارتها، وشكّلت حالة استثنائية بقيادة الملك المؤسس عبد الله بن الحسين، فإن مراجعة الكيفية التي أدارت بها الدولة ملفّ الآثار على أرضها، يجعل من دراسة الحالة المؤسسية لدائرة الآثار مسألة مطلوبة، وهي مراجعة لكيفية فهم القيادات الأردنية المبكرة للقيمة الحضارية التي تمثلها آثار الأردن، ومن مراجعتنا لأخبار الأردن من خلال الصحافة مع أول سنوات التأسيس، نقرأ في جريدة البشير الصادرة في نيسان العام 1922 م، عن تأسيس “ مجلس المعارف العالي”( .. للسعي في ترقية الدروس والعلوم، ويعتني بتاريخ وجغرافية بلاد شرقي الأردن الغنية جدا بالآثار القديمة النفيسة، ..وتمّ تعيين أول عضو فيه الأرشمندريت ميشيل عساف رئيس طائفة الكاثوليك بالسلط لما سبق لحضرته من الكتابات عن تاريخ وآثار هذه البلاد الشرقية، ويتم إنشاء متحف في عمان، يجمع فيه ما تصل إليه اليد من الكتابات القديمة والنواويس الرومانية والنقوش الجميلة النبطية وغيرها، فتكون من أجمل المتاحف السورية ، لما يتوفر في هذه البلاد من الأنقاض النفيسة النادرة الوجود..).
وكان الأمير عبد الله بن الحسين قد اوعز بنشر كتاب الأب عساف في التأريخ لعمان، وأبدى تقديره لهذا الجهد، وقام رئيس مجلس النظار ( الوزراء) رضا الركابي بمتابعة هذا التوجه، وأمر برفع التراب وسائر أنواع الأنقاض عن المسرح الروماني بعمان حسبما ذكر مراسل جريدة البشير التي تصدر في بيروت، وذلك في شهر آب من العام 1922م .
ويبدو أن الاهتمام بالآثار اتخذ حالة مؤسسية منذ بدايات نشوء الدولة الأردنية، فقد نشرت الجريدة الرسمية “ الشرق العربي: اعتبارا من العام 1926 م انضمام الفيلسوف التركي رضا توفيق إلى المجلس التنفيذي ( الوزراء ) باعتباره ( محافظ الآثار)، وكان رضا توفيق من المقربين من الأمير عبد الله بن الحسين، وتذكر الجريدة الرسمية ان رضا توفيق تبرّع بمكتبته التي تضمّ أربعة آلاف مجلد لإقامة نواة للمكتبة العامة في المسجد الحسيني، وذلك العام 1924 م، عندما زار الشريف الحسين بن علي (ملك العرب) عمان، وبايعه أهالي الإمارة وفلسطين ومدن بلاد الشام بالخلافة.
هذه هي بداياتنا في الدولة الأردنية في الحفاظ على كنوز الحضارات التي تحفظها الآثار على أرضنا، وهي تؤشر على أن الدولة عملت على المحافظة على الآثار بوعي، بحيث جعلت ملف الآثار يُدار بشكل مؤسسي بنشوء دائرة للآثار، وبعد مرور قرن من الزمان نجد أن استثمار هذه الكنوز في حقل السياحة حالة مطلوبة ، وتشكل مصدرا من مصادر دخل الوطن، وعلينا الحفاظ على هيبة الدائرة واستمرارية عملها الفني والأكاديمي والمؤسسي، طالما أن الأجداد حملوا هذا الوعي، وكانت بدايات الدولة تؤكد على العمل المؤسسي في إدارة الآثار التي تحفظ تاريخنا على هذه الأرض المباركة، ونحن اليوم ولله الحمد نملك القدرات والطاقات الأكاديمية والفنية، ولدينا العديد من الباحثين المتخصصين الذين أداروا منذ الثمانينيات من القرن الماضي( المؤتمر الأردني العالمي للتاريخ والآثار)، وأغنوه بأبحاثهم ودراساتهم لكنوزنا الثمينة على أرضنا من الآثار الحضارية، وختاما ونحن نقترب من المئوية الأولى للدولة الأردنية، نرجو ان نعطي لهذه الكنوز دورها في عنايتنا، وأن نركز على المؤسسية التي تمثلها دائرة الآثار، وأن نثق بإمكاناتها الأكاديمية والفنية والإدارية، فنحن نملك وطنا يستحق أن نحافظ على تاريخه بالمحبة الكبيرة.